مجلة ضفاف القلوب الثقافية

السبت، 31 أغسطس 2024

من القرية إلى المدينة بقلم فؤاد زاديكي

 مِنَ القريةِ إلى المدينةِ

بقلم: فؤاد زاديكى

قصّة قصيرة

في إحدى القرىِ النَّائيةِ، كانتْ تعيشُ عائلةٌ بسيطةٌ مكوَّنةٌ منْ أبٍ يُدعى سليمٌ، و أمٍّ تُدعى فاطمةٌ، و طفلينِ صغيرينِ. كانتْ حياتُهمْ هادئةً، يسودُها السَّلامُ و البساطةُ. لكنْ، في يومٍ منَ الأيَّامِ، جاءتهمْ أخبارٌ سيِّئةٌ بأنَّ سدًّا قريبًا قدِ انهارَ، و سرعانَ ما بدأَتِ المياهُ تغمرُ القريةَ. اضطرَّتْ العائلةُ إلى تركِ بيتِها و الهربِ باتجاهِ المدينةِ بحثًا عنِ الأمانِ.


وصلتِ العائلةُ إلى المدينةِ الكبيرةِ و هي في حالةٍ منَ الضّياعِ و الخوفِ. كانَتْ هذهِ المرَّةُ الأولى, التي يجدونَ أنفسَهمْ فيها محاطينَ بمبانٍ شاهقةٍ، و ضوضاءِ السيَّاراتِ، و أناسٍ غرباءِ لا يعرفونَهم. حاولَ الأبُ سليمٌ البحثَ عنِ عملٍ، لكنَّهُ واجهَ صعوبةً في العثورِ على شيءٍ يناسبُ مهاراتِه. كانتِ الأعمالُ في المدينةِ تتطلَّبُ خبراتٍ لمْ يكنْ بحاجةٍ إليها في القريةِ.


أمَّا الأمُّ فاطمةُ، فقدْ شعرتْ بالحنينِ إلى بساتينِ القريةِ و الجوِّ الهادئِ, الذي كانتْ تعيشُ فيه. في المدينةِ، كانَ كلُّ شيءٍ سريعًا و صاخبًا. لمْ تكنْ تعرفُ كيفَ تتعاملُ معَ النّاسِ المختلفينَ، و بعضُهم كانَ يسخرُ منْ لهجتِها الريفيةِ.


بالنسبةِ للأطفالِ، كانتِ المدرسةُ الجديدةُ تحديًا كبيرًا. زملاؤهمْ في المدرسةِ كانوا يستهزئونَ بهمْ لأنّهمْ لا يرتدونَ الملابسَ العصريّةَ، و لا يعرفونَ الكثيرَ عنِ التكنولوجيا الحديثةِ. شعرَ الأطفالُ بالوحدةِ و الانعزالِ.


معَ مرورِ الوقتِ، بدأتِ العائلةُ تتكيَّفُ تدريجيًا معَ الحياةِ في المدينةِ. تعلَّمَ الأبُ سليمٌ مهنةً جديدةً كبائعٍ متجوِّلٍ، وبدأتْ الأمُّ فاطمةُ تعملُ في تنظيفِ المنازلِ. و رغمَ كلِّ الصّعوباتِ، حاولوا الحفاظَ على قيمِهمْ و تقاليدِهمْ.


لكنْ، لمْ يكنْ هذا الانتقالُ سهلًا. تعرَّضَ الأبُ للاحتيالِ أكثرَ منْ مرَّةٍ، و كانتِ الأمُّ تشعرُ بالإرهاقِ بسببِ العملِ الشاقِّ. كما أنَّ الأطفالَ احتاجوا إلى وقتٍ طويلٍ للتّأقلمِ معَ البيئةِ المدرسيّةِ الجديدةِ. ومعَ ذلك، لمْ تفقدِ العائلةُ الأملَ، و ظلّوا متمسّكينَ ببعضِهم البعضِ، متعاونينَ لتجاوزِ هذهِ المصاعبِ.


في النهايةِ، أدركتِ العائلةُ أنَّ الحياةَ في المدينةِ، رغمَ قسوتِها، يمكنُ أنْ تحملَ لهمْ فرصًا جديدةً إذا تعاونوا و ثابروا. و بدأوا يرونَ أنَّ لكلِّ تجربةٍ جانبًا إيجابيًا، حتى و إنْ كانتْ في البدايةِ صعبةً و مؤلمةً.

مع مرورِ الوقتِ، بدأتْ العائلةُ ترى بصيصَ الأملِ في الأفقِ. بعدَ أشهرٍ منَ الكفاحِ، حصلَ الأبُ سليمٌ على فرصةٍ للعملِ في متجرٍ صغيرٍ يبيعُ المنتجاتِ التقليديّةَ، بفضلِ إتقانهِ لبعضِ الحرفِ اليدويّةِ التي تعلّمها في القريةِ. بمرورِ الزّمنِ، أثبتَ جدارتهُ و بدأَ يكسبُ ثقةَ الزبائنِ، حتى أصبحَ مسؤولًا عن المتجرِ. ازدهرتْ أعمالُهُ، و بدأَ يتعاونُ معَ بعضِ أصحابِ المتاجرِ الأخرى في تقديمِ منتجاتٍ فريدةٍ تعكسُ تراثَ قريتِه.


أما الأمُّ فاطمةُ، فقدْ قرَّرتْ أنْ تستخدمَ خبرتَها في الزراعةِ والطهيِ التقليديِّ في مساعدةِ العائلاتِ الفقيرةِ في المدينةِ. بدأتْ تعملُ معَ جمعياتٍ خيريةٍ لتعليمِ النساءِ فنونَ الطّهيِ الصّحّيِّ و زراعةِ بعضِ الخضرواتِ في حدائقِ المنازلِ الصغيرةِ. لمْ تكتفِ بذلكَ، بلْ أسَّستْ مبادرةً لتوزيعِ الطعامِ على المحتاجينَ في الأحياءِ الفقيرةِ. معَ الوقتِ، أصبحتْ معروفةً في المجتمعِ المحليِّ بنشاطِها الإنسانيِّ، و تحوَّلتْ إلى نموذجٍ يُحتذى بهِ في العملِ الاجتماعيِّ.


بالنسبةِ للأطفالِ، فقدْ تغيرتْ حياتهمْ أيضًا. على الرّغمِ منْ صعوبةِ التّأقلمِ في البدايةِ، إلّا أنّهمْ وجدوا أصدقاءً جددًا يشتركونَ معهمْ في حبِّ العلمِ و التفوقِ. تفوقَ الطفلُ الأكبرُ في دراستهِ و حصلَ على منحةٍ دراسيةٍ منْ مدرستِهِ، حيثُ أظهرَ نبوغًا في الرياضياتِ و العلومِ. بينما أظهرتِ الطفلةُ الصغرى موهبةً في الرسمِ، و أصبحتْ تشاركُ في مسابقاتٍ فنيةٍ و تفوزُ بجوائزَ تقديريةٍ.


بدأَتِ العائلةُ تشعرُ تدريجيًا بأنَّ المدينةَ لمْ تعدْ غريبةً كما كانتْ من قبلُ. أصبحَ لهمْ مكانٌ في المجتمعِ الجديدِ، و أصبحوا يقيمونَ علاقاتٍ جيّدةً معَ جيرانِهم. تعلّموا كيفَ يتكيّفونَ معَ إيقاعِ الحياةِ السّريعِ دونَ أنْ يفقدوا قيمهمْ و تقاليدهمْ التي جلبوها منْ قريتِهم.


في نهايةِ المطافِ، أدركتِ العائلةُ أنَّ المحنَ, التي واجهتها كانتْ جزءًا منْ مسيرةِ النّجاحِ. بفضلِ إصرارهمْ على التأقلمِ و العملِ الجادِّ، استطاعوا بناءَ حياةٍ جديدةٍ تملؤها السعادةُ و الاستقرارُ. لمْ يعدِ التناقضُ بينَ المدينةِ و القريةِ يُخيفُهم، بلْ أصبحوا يشعرونَ أنَّهمْ يجمعونَ بينَ أفضلِ ما في العالمينِ. في هذهِ التجربةِ، تعلَّموا أنَّ الصعوباتِ قدْ تكونُ في بعضِ الأحيانِ بابًا لفرصٍ لمْ تكنْ تخطرُ لهمْ على بالٍ.

بينما كانتْ الحياةُ تبتسمُ أخيرًا لعائلةِ سليمٍ، و تظهرُ بوادرُ النجاحِ و الاستقرارِ، حلَّتْ بهمْ مأساةٌ مفاجئةٌ هزَّتْ كيانَهمْ. أصيبَ الأبُ سليمٌ بمرضٍ مفاجئٍ، لمْ يمهلهُ طويلًا. و رغمَ كلِّ محاولاتِ العلاجِ، توفيَ الأبُ في إحدى اللياليِ الهادئةِ تاركًا وراءهُ حزنًا عميقًا و ألمًا لا يوصفُ. كانَ رحيلهُ صدمةً للعائلةِ التي كانتْ تعتمدُ عليهِ كثيرًا.


وجدتِ الأمُّ فاطمةُ نفسها فجأةً أمامَ مسؤولياتٍ ثقيلةٍ كانتْ تتقاسمهَا مع زوجها. كانتْ تعلمُ أنَّ عليها أنْ تكونَ قويةً منْ أجلِ أطفالها، رغمَ الألمِ الذي يعتصرُ قلبَها. تحمَّلتْ الأمُّ الصّدمةَ و صمّمتْ على مواصلةِ الطّريقِ الذي بدأهُ زوجُها. قررتْ أنْ تستلمَ إدارةَ المتجرِ بنفسها، رغمَ عدمِ خبرتها الكبيرةِ في هذا المجالِ، لكنَّها تعلَّمتْ سريعًا و استعانتْ ببعضِ الأصدقاءِ المخلصينَ الذينَ وقفوا بجانبها.


استمرَّتْ فاطمةُ في عملها الاجتماعيِّ و الإنسانيِّ رغمَ حزنها العميقِ، معتبرةً أنَّ مساعدةَ الآخرينِ هي الطريقةُ الوحيدةُ للتخفيفِ منْ أوجاعِها. كانتْ تجدُ في العطاءِ سبيلاً لتكريمِ ذكرى زوجها، الذي كانَ دائمًا يؤمنُ بالخيرِ و البذلِ.


الأطفالُ أيضًا تأثروا بفقدانِ والدهم، لكنَّهمْ وجدوا في حنانِ أمِّهم و دعمِها الدائمِ قوةً لمواصلةِ حياتهم. استمرَّ الابنُ الأكبرُ في دراستهِ الجامعيةِ، مصمّمًا على تحقيقِ النّجاحِ, الذي كانَ والدهُ يحلمُ بهِ. أمَّا الطفلةُ الصغرى، فقدْ أصبحتْ أعمالها الفنّيّةُ تعكسُ مشاعرَ الحزنِ و الفقدانِ، لكنّها كانتْ تجدُ في الرسمِ عزاءً و سبيلاً للتعبيرِ عنْ مشاعرها.


مع مرورِ الوقتِ، و على الرغمِ منْ ثقلِ المصاعبِ، بدأتْ العائلةُ تستعيدُ توازنَها. استطاعتِ الأمُّ فاطمةُ أنْ تحافظَ على استقرارِ الأسرةِ و تربّي أطفالَها على القيمِ, التي زرعها فيهم والدهم. كانتْ دائمًا ترددُ لهم أنَّ الحياةَ، رغمَ قسوتها، تستحقُّ أنْ تُعاشَ بالإيمانِ و الأملِ.


و هكذا، و بالرّغمِ منْ الفقدِ الكبيرِ، استطاعتْ العائلةُ أنْ تتجاوزَ أحزانها. بقيتْ ذكرى الأبِ سليمٍ حيّةً في قلوبِهم، و كانتْ تُلهمهمْ لمواصلةِ الطريقِ و تحقيقِ ما كانَ يسعى إليه. أصبحَتْ قصةُ هذهِ العائلةِ مثالًا على القوةِ و الصبرِ في مواجهةِ المحنِ، و كيفَ يمكنُ للإيمانِ و الإرادةِ أنْ يغلبا التّحدياتِ، حتى في أحلكِ الظّروفِ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق