فيروسات التعليم في مصر
كتب : عبد الناصر سيد علي
.......................................................
لا يخفى على الجميع ما قد آل إليه حـالُ التعليم في مصر بلدي العزيز من مشكلاتٍ متراميـة الأطـراف ، متباينـة الأسبـاب ، عميقة الجـذور ، والتي أضـرَّت بمستقبل التعليم والثقافة ببلدي ، وأنا كوني معلماً للغـة العربية مـن أكثر من سبـعٍ وعشرين عاماً ، وانتقلت مابين المرحلتين الإعدادية والثانوية ( عامِّـها وفنّٓـها), وما قد شرفت بمتابعته خلال عملي كمديراً للمتابعة وتقويم الأداء على مدار سبعِ سنواتٍ متتالية ، متابعاً لجميع أركان العملية التعليمية متابعةً مباشرةً أو غير مباشرةٍ ، وكذا جميع المراحل بدءً من رياض الأطفال وحتى المرحلة الثانوية بنوعيها مروراً بالمرحلة الإعدادية ، والتعليم المجتمعي أيضاً ، استطعت أن أُكوِّنَ وجهة نظرٍ لِما أصاب التعليمُ في مصر من خللٍ ، وكفانـا تقاريـرٌ ورديـةٌ وكـلامٌ معسولٌ لا يَمُـتُّ للحقيقةِ قيدَ أنمُلةٍ ، وقـد أوجـزتُـها في تسعـةِ فيروساتٍ ،نهشـت وما زالـت تنهش في جسد التعليم في بلدنا الغالي وهي :
١- بدايةً ، شكل المبنى المدرسي والذي اتخذ قالبَ السجون العمومية ، فالتلميذ لا يراه سوى ذلك ، فلابد من توفير مناخٍ تعليميٍ محفزٍ من خلال تصميم المبنى المدرسي ، ببنيته التحتية ، فما الذي
يضيرنا لو صممنا المبنى المدرسي على شكل فندق ، أو ڤيلا ، أو حتى تصميماً قريبـاً مـن شكل منازلنـا ، علـى نسـق تصميمات المدارس الخاصة مثلاً ، والتكاليف هي نفس التكاليف ، وحتى لو ارتفعت قليلاً فإنه التعليم ياسادة ، فمن منا لا يروقه تصميم الفنادق والڤيلات ؟! فيشعر التلميذ وكأنه لم ينتقل من بيئته إلى مكان غريب فيشعر بوحشة المكان ، بل يكره الذهاب إليه ، ولكن يشعر بأنه ذاهبٌ إلى رحلةٍ عبر الأفنيةِ الخضراء، والطرقاتِ الجميلة ، والقاعات المتميزة ، فيكون باعثاً على التفاؤل بيومٍ دراسيٍ جميلٍ .
الفيروس الثاني :
الكثافات داخل الفصول ، وهذا نتيجة بناء المدارس داخل الكتل السكنية وعدم توافر مساحات فراغية تستوعب أعداد
المتقدمين للدراسة ، فماذا لو انتقلنا إلى الحيز الصحراوي في قرارٍ تعبويٍ جرئ بالاستغناء عن مقرات ( مجالس المدن - المستشفيات والمراكز الطبية - النوادي الرياضية والساحات - مراكز الشرطة والمحاكم - مقرات السلع التموينية - محالج الأقطان - البنوك - وحدات المرور - كل المقرات الإدارية التابعة
للدولة وغيرها ) أعلم أنَّ منها ما يكون مِلكاً لهيئاتٍ خاصة ، ونقول قراراً جريئاً بتكاتف جميع القوى كما حدث ويحدث بالعاصمة الإدارية الجديدة هذا الصرح العملاق الذي سينقل مصر إلى آفاقٍ عالمية بارزةِ المعالم ، ومن ذا الذي يقف في وجه مصلحة مصر ؟! .
وبهذا نكون قد وفرنا عدداً كبيراً من المقرات والتي تستطيع استيعاب أعداد المتقدمين ، بعد الاتجاه إلي جعل المدارس كلها مدارس تعليم أساسي من الأول الابتدائي وحتى الثالث الإعدادي ويا حبَّذا لو كان نفس المكان بفاصل سورٍ يُخَصَّصُ للمدرسة الثانوي أيضا تحت مسمى مدرسي واحد .
الفيروس الثالث :
المناهجُ الدراسيةُ ومابها من تحميل الطالب ما لا طائـل من ورائـه فيدرس الطالب مـواد وفـروع لا تَمُـتُّ لواقعـه أو حياته بصلة في كثيرٍ من الأحيان ، يكون منفصلاً عنها بعد التخرج ، بعد أن تكون قد أنهكته في تعلمها ، وأيضاً كَمُّ المطلوب تعلمه ، فقد اهتممنا بالكَمِّ ، وتركنا الكيف خلف ظهورنا، فأصبح الطالب حتى بعد تخرجه فارغاً كبلونةِ هواء ، بالإضافة إلى كمِّ الواجبات المنزلية والتي تفقد التلميذ الاستمتاع بأوقاته ، والقضاء على حرية لعبه وحركته.
ألم يأن الآوانَ أن نقـدِّم لتلاميذنا مناهجاً تتماشي مع ميولهم ،ومع بيئاتنا وثقافاتنا أيضاً ،وتقدمهم لسوق العمل ، حتى يَـرّْتقوا بأنفسهم ويستطيعوا بناء وطنهم ؟.
الفيروس الرابع :
فقرُ المعلمين ، نعم المعلمون فقراء فكيف تطلب من معلمٍ يعيش يومه ما بين المدرسة ، ومحل الكشري الذي يعمل به ، ومتطلبات أولاده ، ولوازم العيش ، وديونه وقروضه الغير منتهية كيف تطلب منه أن يصنع لك منتجاً ؟ ، فليس في أم رأسه سوي : من أين يأتي بالقرش سواء ( سائق توك توك - عامل بمخزن- بمحل كشري- حلواني - سَـرِّيح..... وما إلى ذلك ) لا أقلل من شأن أصحاب هذه المهن ولكن وظيفة المعلم هي نفسها وظيفة الرسل فكيف برسول العلم ينامُ ليلَـه وكلَّ همِّهِ الحصول على القرش ، حتى يستطيع تغطيةَ جزءٍ من قائمة المصروفات اليومية وهو يمُـدُّ يده ليل نهار مقترضاً من زملائه ، أو جيرانه ، أو غير ذلك ، على الرغم من أنه هو هو الذي يربي ويعلِّـمُ ويُخـرِّج ؟.
وهنا وجب إنصافُ المعلِّمِ ، ووضعُه بالمكان الذي يستحقه ، فهو مَنْ علَّم وخرَّج الطبيب والمهندس والضابط والمحامي وصولاً لقيادات الدولة جمعاء ، ألا يستحقُّ من قَـدَّم هذا أن يُقَـدَّمَ على الجميع ؟!
الفيروس الخامس :
مبدأ الثواب والعقاب ، فكبار كتابنا وأدبائنا وأطبائنا وقادتنا تربوا على مبدأ الثواب والعقاب لذلك شمخوا عندما احترموا معلميهم وتقلدوا الأخلاق تيجاناً ، أمَّـا والآن وبعد ظهور بعض المدارس المتخصصة في علوم النفس وغيرها وقد أوحوا إلى راسمي سياسات الوزارة برفض فكرة العقاب ، ونفس الوقت لم يضعوا بديلاً مَـرْضِيَّاً يَفِي بالغرض من التقويم ، حتى صار وطبقاً لقاعدة " من أَمِـنَ العقابَ أساءَ الأدب " صار التلميذ معلماً والمعلمُ تلميذاً ، بل لن يجرؤ معلماً أن يقتربَ من تلميذ ، وقد استمد التلميذ جرعة الوقاحة من قرارات غير مبنية على أسس الثواب والعقاب ، ولما إذاً جعل الله الجنة لمن أطاعه ، والنار لمن عصى ؟.
الفيروس السادس :
مراكز الدروس الخصوصية ، وما خلفته من استنزاف لموارد الأسرة التي تكاد تكون منعدمة، فأصبح هـمُّ الأب الآن كيف يوفِّـر المبالغ المالية للدروس قبل المأكل والمشرب والملبس، علَّـه يعوِّض ما لم يستطع ابنه من تحصيله بالمدرسة ، وقد أصبحت ضمن ثقافة وقناعة كل أسرة ضرورةً مُلحَّـةً ، وفرضاً واقعاً .
الفيروس السابع :
طول ساعات اليوم الدراسي من السابعة صباحاً ويعود الثالثةَ مساءً طبقاً لما ورد بجدول الوزارة لدراسة اليوم الكامل من الثامنة صباحاً وحتى بعد الثانية مساء بما يجعل التلميذ منهكاً لا يستوعب كل ما يُعبَّـأُ برأسه ، فاقداً للتركيز ، ولما هذه الساعات الطوال فالتلميذ لا يتحمل هذا الجهد ، وماذا تنتظر أنت منه أن يقدمه لك ؟!.
الفيروس الثامن :
كثرةُ الاختبارات المدرسية، وما يترتب عليه من توتـرٍ للتلميذ والخوف من عدم تحصيل الدرجات العالية ، فيفقده أصلاً التعلم الناقد الواعي كمعظم طرق التعلم بالكثير من الدول الأخرى ، وأيضا توتر الأسرة حيال توتر ابنها ، وغالباً بعد الاختبار يكون قد نسي الطالب مادة الامتحان أصلا .
الفيروس التاسع والأخير لديَّ :
العجـزُ الواضح والصـارخ في معلمي بعض المواد والأنشطة المختلفة ، وما ترتب عليه من وجود فصولٍ بلا معلمين ، وموادٍ بلا تدريس ، وهذا هو الذي يُكـرِّسُ لمصيبة الدروس الخصوصية ، وأرى ضرورة أن يتم حصر السادة البالغين سن التقاعد من المعلمين والمشرفين والإخصائيين في كل عام ، وقبله تقام مسابقة بشروط فنية لأهل التخصص كل عام بشهر يوليو وتعلن نتيجتها أواخر أغسطس ، على أن يبدأ الفائزون باستلام عملهم ومن ثم تدريبهم في تخصصاتهم قبل بدء العام الدراسي الجديد ، وعلى درجات وظيفية ولما لا وقد ترك المتقاعدون أماكنهم شاغرة .
.....................
هـذه تسعـة فيروسـات أصابت التعليم في مصر ، وقد فطن إليها غيرنا فقدموا العلاج الناجع لها فصاروا في مقدمة
الدول كأفضلِ نظمٍ تعليمية في العالم ، وحاز طلابُـها المراكز المرموقةعلى مستوى العالم ، فهلَّا حذونا حذوهم وتخلصنا من تلك الفيروسات ؟.
.....................................................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق