مجلة ضفاف القلوب الثقافية

الأربعاء، 26 يناير 2022

شجرة التين بقلم عبدالصاحب أميري

 قصّة قصيرة قصيرة

شجرة التّين

عبد الصاحب إ أميري 

****، 

فضاء عجيب يخيّم على غرفة منام  الحاج فائق، الغرفة أقرب  ما تكون إلى المعرض، جدار القسم الأيسر من  الغرفة، خصّص لمختلف التّحفيّات  من مختلف الحضارات ، متراصّة كمن تحكي كلّ منها حكاية

أو تسجّل موقفاََ

الجانب  الأيمن من الغرفة خصّص لصور أفراد عائلة  الحاج فائق بدءََ  من والديه وأولاده الأربعة واحفادهم   

استعرض الحاج فائق بعينية صور العائلة توقّف  عند أبيه، وأنتقل إلى 

اولادة  وتمتّم بهمس، 

- الغربة قاتلة أتمنى أن تكونوا بخير وعافيّة، 

ترك سريره  ومسح دمعة سقطت من عينه  دون ارادة، 

اتّجه نحو زوجته المقعدة، الحاجة مريم،  مسح بهدوء على رأسها،  وتمتم بين شفتيه 

-أنا ذاهب لألقي نظرة على شجرة التّين، أسلّم على أمي وأعود سريعاََ، 

إن صحوت ولم تجديني يكفي أن تنادي وأكون قربك، 

فائق لن يتركك وحدك

رفع عصاه من على سريره واتّجه نحو باب الغرفة

دفع الحاج فائق (رجل تجاوز التّسعين من عمره،) ،بعصاه  المنبته بعاج الفيل باب غرفته الخشبيّة،، والّتي باتت  لا تفارقه حتّى السّاعة،، 

حين يسأل 

-لم العصا  وأنت لم تعتمد عليها في المشي 

يبتسم، ابتسامة فيها ألف معنى 

-العصا،نصيحة الوالد رحمه الله،

صورة الأب(الحاج فؤاد) الموضوعة على جدار الغرفة تبتسم إبتسامة عريضة وتنطق

- هيبة الرّجل تكمن في عصاه، إيّاك أن تترك العصا

ترك الحاج فائق غرفته ليقوم بسقي  شجرة التّين، الوحيدة الّتي ظلّت وفيّة للعائلة ، وعمرها  زاد عن القرن بكثير، 

تاريخها  يرجع  إلى يوم اكتشف الحاج فؤاد، (والد فائق) أنّ زوجته تحبّ التّين، فزرع الشّجرة من أجلها وظلّت  تؤمّن لهم  التّين الأسود، طيلة سنوات ، 

أخذ فائق منذ صباه مسؤوليّة الشّجرة يجفّف  التّين  منها لفصل الشّتاء، ويؤمّن منها مربى التّين الّذي يعدّه بيديه منذ أن كان صبيّا، حسب مذاق أمّه المرحومة، 

علامات العقود التّسع لم تظهر بعد على محيا (الحاج فائق) قامة رشيدة، ووجه منير، كمن كان في الخمسين من عمره

، قضى جلّ وقته بالتّجارة والسّفر وأهتم بالتّحفيات  و منّ الله عليه بالمال والأولاد، وكلّ قطعة من التّحفيّات  تأخذه إلى عالمها ، تراه وكأنّه يحزم حقائبة للسّفر،

عصاه المنبته بعاج الفيل  لن تفارقه حتّى في ساعات نومه، لها مكانها الخاصّ على سرير

ما إن أراد الخروج، حتّى وجد  نفسه أمام سؤال طرحته الحاجة (مريم)، بعد أن رفعت رأسها صوبه

-إلى أين تذهب يا فائق؟ 

-إلى شجرة التين 

-أنا لا أطيق الوحدة

 التفت  إليها نصف التفاتة

-أي وحده تتحدثين عنها،،، ؟ 

ها هم أولادك الأربعة مع زوجاتهم  واولادهم معك  وتقولين 

أنا وحدي

شجرة  التّين تحتاج رعاية،  وأمّي المرحومة تحتاج إلى زيارة

نسيتي، أين ترقد  أمّي؟ 

أدمعت عيون الحاجة مريم

-رحم اللّه عمّتي ، كيف انسى يوم دفنها تحت شجرة التّين، صدقني  الشّجرة تثمر من أجلها

خذني معك، أريد زيارتها

نظر إليها الحاج فائق، نظرة تضاربت فيها المعاني ، فالوقت ليس مناسباََ لها لترك دفء الغرفة، فالجوّ بارد  نسبيّا في الخارج

قرأت الحاجة مريم تفكير فائق،

-ضع غطاءََ على ساقيّ

لم يكن أمام فائق سوى الأنصياع لأوامر زوجته المريضة، وضع على أطرافها غطاءََ سميكاََ

أبتسمت مريم كطفلة صغيرة،

-أنت لا زلت تحبّني يافائق؟ 

-ومن لي غيرك، يبدو  أنّك لا تكبرين 

كلّ ماتبقى منّا أنا وأنت، كلّهم رحلوا والآخرين تركونا كيّ ينعموا بالحياة 

يرسم فائق إبتسامة على شفتيهه

-أنت كلّ الحبّ 

تقهقه الحاجة مريم بصوت عال  فرحة 

- أنا كل الحبّ، وأنت الحبّ كلّه

يدفع الحاج فائق عربة الحاجة مريم،بعناية خاصّة 

-تريد الحقيقية يا فائق، انا حزينة من تصرّف أولادي،  إنّنا وفي هذا العمر، بحاجة ماسّة لهم، بحاجة ماسّة إلى حبّهم

يطبطب الحاج فائق على كتفها  

-أنا معك ، لن أجعلك تحتاجين شيئا، أنا كلّ الحبّ 

تدمع عيناي الحاجة مريم، وتتكلّم ببحّة خاصّة، 

-هل تستطيع أن تصبح أحفادي؟ 

-أصبح 

- كيف تريد أن تكون كلّ الحبّ، لكلّ زهرة عطرها

تنهار بالبكاء، يجلس الحاج على ركبتية بالقرب من شجرة الزّيتون العاريّة من الأوراق، يمسح بمنديل يده دموع الحاجة  مريم،

دموعك، تمزّق فؤادي، تكفينا الوحدة، امسحي عينيك، ودعينا نسلّم على الوالدة 

 وبعدها نلفّ حول الشّجرة كما كنّا نفعل حين كانوا الأولاد معنا،

يدفع الحاج فائق العربة حول الشّجرة، يصرخ عاليّا

-امسكونا يا أولاد، 

هيّا يا حميد

أنت يا مجيد

يعلو صراخ الأولاد  وتتداخل

 الأصوات

-سأمسك بكما

-اسرعا

، ترتسم على وجه الحاجّة مريم  إبتسامة عريضة  وهيّ تصّرخ

-حامد ، الحق بنا

حاول الإمساك بنا

-ادفع يا فائق لا تدعهم يمسكوننا

-لن يتمكّنوا منّا الأولاد

يدفع الحاج فائق العربة عدّة دورات حول الشّجرة، ومن ثم يتّجه نحو الغرفة، يلهث  ويصرخ، والحاجّة مريم تقهقه عاليّا

ما أن يضع اقدامه داخل  الغرفة ، حتّى تبدو الحاجّة مريم قد استردّت شيئا من عافيتها

-أشعر بالسّعادة اليوم ، قل لي هل تشعر نفس الشّعور؟ 

-نعم،  لأنّنا كنّا بين أولادنا 


*****

  تحاول الحاجة مريم ، ترك العربة بالاعتماد على يديها، يرتبك فائق يتجه نحوها يريد الإمساك بها 

-لا تمسكني 

يرجع  فائق خطوتي للخلف وهو يراقب أفعال مريم بحذر 

-هل تدرين ماذا تفعلين

-اليوم عيد ميلادي، أنسيت 

-كيف انسى أتيت لك بكعكة الميلاد 

تتناول عصا فائق تستندّ عليها ، يلتفت فائق حولها مرّتبكا 

-ما دام أولادنا معنا، لنحتفل ، 

أريد أن أرقص بين أولادي 

يتمتم فائق 

-ارجوك 

 هيّا جهز الكعكة، لا تخف انا اليوم لن أقع  ماداموا معنا 

سأرقص ما داموا معنا

صوت الأولاد يعلو

أمّي مصباح البيت

نورك سعيد

يومك جديد

كلّ عام  وأنت بيننا

أنت حبّنا

الأمّ معتمدة على العصا تتحرّك يميناََ ويساراََ  والفرحة تغمرها

تتصوّر الأولاد من حولها

تسقط على الأرض 

عبد الصاحب إ أميري

******



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق