مجلة ضفاف القلوب الثقافية

السبت، 13 أغسطس 2022

التصوير الفني في القرآن الكريم بقلم عبدالحميد ديوان

 التصوير الفني في القرآن الكريم
دعبدالحميد ديوان
 لا يختلف أحد ممن يملك علماً أن التعبير القرآني فريد في علوه وسموه , وأنه أعلى من أي كلام أخر وأرفعه , وانه بهر العرب فلم يستطيعوا مداناته والإتيان بمثله مع أنه تحداهم أكثر من مرة . 
لقد تحدى القرآن العرب , ثم جميع الخلق بأن يأتوا بمثله ثم أخبر أنهم لن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . وقد تحداهم في أول الأمر بأن يأتوا بعشر سور مثله إن كانوا يرون أنه مفترى فقال ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ) ( هود )  
فلما انقطعوا وقامت الحجة عليهم تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله وأخبر أنهم لن يفعلوا فألجموا أيضاً ولم يقدروا على ذلك , وقامت الحجة عليهم قال ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) ( البقرة ) .
وأكد التحدي بقوله ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ( الإسراء) .
ومن الثابت أيضاً أن القرآن الكريم كان يأخذهم بروعتة وأنهم لا يملكون أنفسهم عن سماعه ولذلك سعوا إلى أن يحولوا بين القرآن وأسماع الناس . لأنهم يعلمون أن مجرد وصوله إلى السمع يحدث في النفس دوياً هائلاً وهزة عنيفة . وقد ذكر الله عنهم هذا الأسلوب فقال ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن واالغوافيه لعلكم تغلبون )( فصلت ) . 
وكان عتاة قريش وصناديدها وأشدهم كيداً للرسول (ص) لا يملكون أنفسهم عن سماعه , وقد ذكر ابن كثير في تفسيره أن كلاً من أبي جهل وأبي سفيان والأخنس ابن شريق يأخذ نفسه خلسة لسماعه في الليل والرسول في بيته لا يعلم بمكانهم , ولا يعلم أحد منهم بمكان صاحبه حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً , ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا . وقد أخبر الله نبيه بهذا الأمر فقال عز وجل : ( نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحورا )و قصة الوليد بن المغيرة مع قريش و الرسول صلى الله عليه و سلم معروفة . فقد اجتمع إليه نفر من قريش ليجمعوا على رأي واحد يصدرون عنه يقولونه للناس في الموسم فقال بعضهم : شاعر,وقال بعضهم كاهن,وقال بعضهم: ساحر وقال بعضهم : مجنون فكان يرد المغيره هذه الأقوال ويفندها . ثم قال : والله إن لقوله حلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإنه ليعلو وما يعلى عليه ، ولكن القوم لم يتركوه إلا بعد أن قال : هو ساحر ، إن التعبير القرآني هو تعبير فني مقصود ، كل لفظة بل كل حرف فيه وضع وضعاً فنياً مقصوداً. ولم تراع في هذا الوضع الآية وحدها ولا السورة وحدها , بل روعي في هذا التعبير القرآني كله .
وقد انتبه القدماء إلى أن السور التي بدأت بالحروف المفردة بنيت على ذلك الحرف .فإن الكلمات التي يكثر فيها حرف القاف ترددت في سورة ( ق) والكلمات ( الصادية) ترددت في سورة(ص) كثيرا ويذكر ابو جعفر أحمد بن الزبير الغرناطي في كتابه(ملاك التأويل أن السور التي تبدأ بالأحرف المقطعة يكثر فيها تردد هذه الأحرف أكثر من غيرها . يقول : إن هذه السور إنما وقع في أول كل سورة منها وأكثر ترداده فيما تركب من كلمها وانتبهوا إلى أن عدد الحروف التي جاءت في أوائل السور هي أربعة عشر حرفاً أي بمقدار نصف حروف المعجم والمعجز في هذا الأمر بالإضافة إلى ما ذكر بأن هذه الحروف الأربعة عشر تشتمل على أنصاف أجناس الحروف المجهورة والمهموسة , والشديدة والرخوة,ومن المنفتحة كلها مناصفة وكذلك حروف القلقلة . وهذا كله يقدم لنا الصورة الواضحة عن الإعجاز المتكامل في التعبير القرآني .
وفي إحصاء آخر تبين للدارسين للقرآن أن ألفاظ القرآن لم توضع عبثاً من غير حساب بل هي موضوعة بشكل دقيق وبحساب في منتهى الدقة . فمثلاً نجد أن لفظة الدنيا تكررت في القرآن الكريم بقدر الآخرة . فقد تكرر كل منهما / 115 مرة/. وأن الملائكة والشياطين تكررت بشكل متساو فقد تكرر كل منها / 88 مرة / وكذلك الموت ومشتقاته تكرر بقدر الحياة / 145 / لكل منهما. ونجد من أمثال ذلك الكثير في القرآن الكريم . 
إن التصوير في القرآن الكريم يعتبر الأداة المفضلة في أسلوبه فهو يعبر بالصورة المحسوسة المتخيلة عن المعنى الذهني ويصور الحالة النفسية للإنسان أمام المشاهد التي يراها . ويعبر عن الحدث المحسوس والمشهد المنظور . 
وتعبر الصورة في تشكيلها القرآني عن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية , ومن ثم يرتقي بالصورة فيمنحها الحياة الشاخصة والحركة المتجددة , فإذا بنا امام معنى ذهني متحرك يملك هيئة منظورة , وإذا الحالة النفسية تحولت إلى لوحة حية يتحرك فيها النموذج الإنساني كشاهد حي , وإذا الطبيعة البشرية أصبحت مجسمة ومرئية . 
وإذا ما تأملنا الصورة الفنية في القرآن فإننا سنجدها تلتفت إلى الأحداث والمشاهد والقصص والمناظر فتجعلها شاخصة حاضرة تبعث فيها الحياة , وعندما يضاف إليها الحوار فإنها تستكمل بذلك عناصرها التخييلة , وتصبح إما مشهد مسرحي ما إن يبدأ فيه العرض حتى يستحيل المستمع إلى القرآن كأنه يحضر عرضاً مسرحياً ينقل الأحداث التي وقعت والتي ستقع أيضاً مشاهد حية أمامه . فينسى المستمع نفسه وأن ما يسمعه إنما هو كلام يتلى ومثل يضرب , بل يتخيله أمامه منظراً يعرض ويشعر أن الحياة تدب في هذه المشاهد وتنتقل من حالة اللفظ إلى حالة الصورة المتفاعلة مع الحدث, فكأن الحياة تعرض أمامه بكل تفاصيلها .
ولو أردنا أن نسأل عن الأدوات التي حولت هذا الحدث من مجرد كلام يتلى إلى حدث منظور فإننا سنجد أمامنا ألفاظاً جامدة في أصلها ليس فيها ألوان ترسم المشاهد ولا شخوص حقيقيون يعبرون . ولكن هذه الألفاظ انتقلت في القرآن الكريم من أداة لفظية إلى حياة فاعلة منفعلة بكل ما فيها من عناصر الحياة.
ولاشك أن هذه الالفاظ الجامدة التي ذكرها إنما هى قوالب بلاغيه عرفناها من خلال الصورة الادبيه في البلاغة العربية ، وتعامل معها الادباء والبلاغيون كثيرا إلا أن تعاملهم معها لم يتعد التقسيمات البلاغيه من تشبيه واستعارة وكنايه وغيرها من فنون البلاغة وكانت صورهم التي تداولوها لاتتجاوز الحركة الحسية البسيطه والتي لم ترق الى التعبير الفني البلاغي القرآني إطلاقا ، فالقرآن انتقل بهذه الادوات البلاغيه من مجرد صور جامدة مقطعه الى حركة مليئة بالحياة والمشاعر والاحاسيس كل ذلك وجدناه في الصورة الفنية في القرآن فالبلاغة في القرآن إنما هى مشاهد حية تزخر بالانفعالات والاحاسيس وهذا مالم يستطع أحد من البشر أن يرمي إليه ولن يستطيع أحد ذلك مهما أوتي من جوامع الكلم و لا شك أن هذه الألفاظ التي ذكرناها إنما هي قوالب بلاغية عرفناها من خلال الصورة الأدبية في البلاغة العربية و تعامل معها الأدباء و البلاغيون كثيراً إلا أن تعاملهم معها لم يتعدّ التقسيمات البلاغية من تشبيه و استعارة و كناية و غيرها من فنون البلاغة . و كانت صورهم التي تداولوها لا تتجاوز الحركة الحسية البسيطة و التي لم ترقَ إلى التعبير الفني البلاغي في القرآن الكريم إطلاقاً.
فالقرآن انتقل بهذه الأدوات البلاغية من مجرد صور جامدة مقطعة إلى حركة مليئة بالحياة و المشاعر و الأحاسيس . كل ذلك وجدناه في الصورة الفنية في القرآن إذ أن البلاغة في القرآن إنما هي مشاهد حيّة تزخر بالانفعالات و الأحاسيس و هذا ما لم يستطع أحد من البشر أن يرقى إليه و لن يستطيع أحد ذلك مهما أوتي من جوامع الكلم.
وعلى ذلك فإن بعض الكتاب في مجال تفسير القرآن رأوا أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن ( كما يرى قطب في كتابه التصوير الفني في القرآن )( وكما يرى الدكتور فاضل السامراتي في كتابه التعبير الفني في القرآن ) . إذ إن الصورة ليست حلية تزين الآيات القرآنية وإنما هي أسلوب متبع ومذهب مقرر من الله تعالى وخطة موحدة وطريقة يتبعها القرآن متفنناً في استخدامها بطرائق شتى وفي أوضاع مختلفة , ولكنها ترجع في النهاية إلى القاعدة الأساسية وهي التصوير ويرى سيد قطب في كتابه أن التصوير في القرآن هو تصوير شامل باللون والحركة والتخيل , كما أنه تصوير بالنغمة التي تقوم مقام اللون في التمثيل , وكثيراً ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات ونغم العبارات وموسيقى السياق في إبراز صورة من الصور تتملاها العين والأذن والحس والخيال والفكر والوجدان , وهو تصوير حي منتزع من عالم الأحياء لا ألوان مجردة وخطوط جامدة إنه تصوير تقاس فيه الأبعاد والمسافات بالمشاعر والوجدان , فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة .
وسنعرض لأمثلة من القرآن تظهر المعاني الذهنية في صور حسية تدلل على ما ذكرناه سابقاً . فمثلاً نجد في قوله تعالى في سورة الفرقان ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) 
 فإنه يريد أن يبين لك أنه سيضيع أعمال الذين كفروا فكأنها ريح لا يلمس الإنسان منها شيئاً فيجعل هذا العمل ( هباء ) ويدعك تتخيل صورة الهباء المنثور , فتعطيك هذه الكلمات صوراً شتى ومعاني أوضح لهذا العمل الذي سيضيع ويتناثر في الجو كالهباء المنثور . 
وكذلك نراه في الآية التالية يرسم الصورة مطولة أكثر من سابقتها مع أنها تحمل نفس المعنى المراد نقله إلى مستمع القرآن . يقول تعالى في سورة ابراهيم ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ) .  
هذه الصورة تزداد حركة وحياة بحركة الريح في يوم عاصف تذرو فيه الرماد وتذهب به بدداً إلى حيث لا يجتمع أبداً .
وصورة أخرى يقدمها لنا القرآن من خلال تصوير الصدقة التي تبذل رياءً ثم يتبعها من وأذى فإنها لا تثمر شيئا ًولا تبقى.
يقول تعالى : ( يا أيها الذين أمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر 0فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ُ).
في هذه الصورة يترك القرآن للقارئ أن يتخيل صورة الحجر الصلب الذي غطته طبقة خفيفة من التراب فظن فيه خصوبة فإذا وابل المطر يصيبه فيتركه صلداً عارياً من تلك الطبقة الخفيفة التي كانت تغطيه فيصبح لا حياة فيه .
ويظهر للعيان أرضاً جرداء لا نبات فيها ويقابل هذه الصورة بصورة المؤمن الذي ينفق أمواله ابتغاء مرضاة الله ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها طل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) إنها صورة المؤمن الذي ينفق صدقاته ابتغاء مرضاة الله فهذه تمثل الجنة التي ترتفع فوق ربوة خصبة خضراء وهذا الوابل مشترك بين الحالتين ففي الحالة الأولى يكون مفزعاً مخيفاً يمحو ويمحق .أما في الحالة الثانية فهو يبعث الخصب والحياة وفي مثال آخر يصور الحالات النفسية كما صور المعاني المجردة .فعندما يريد أن يظهر الحيرة التي تنتاب المشرك بعد أن يكون موحداً فإن قلبه يتوزع بين الشرك والإيمان ويتصرف إحساسه بين الهدى والضلال فيرسم هذه الصورة المحسة المتخيلة(قل أندعو من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى ( الأنعام ).
في هذا المشهد تبرز صورة ذلك المخلوق التعس الذي استهوته الشياطين في الأرض فراح يتبعهم مع أن هناك من كان يدعوه إلى الهدى وينادونه ( ائتنا ) ولكن قلبه أصبح موزعاً حيران لا يدري إلى أي فريق يميل ولا أي طريق يسلك فهو حائر مضطرب النفس لا يستقر على أمر .ولنستمع إلى مثل آخر يكشف لنا عن مجموعة من الناس هيأ الله لهم المعرفة ولكنهم فروا منها وراحوا يعيشون في مستوى أدنى تطاردهم أهواؤهم وأنفسهم لأنهم عاشوا في حيرة وغفلة بين المعرفة والجهل فلا هم استراحوا بغفلتهم ولا هم استراحوا بالمعرفة التي هيأها الله لهم .
يقول عز وجل:( و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها. فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) ( الأعراف ) .
هذا التحقير الصارخ الذي يظهر في الصورة يعطينا انطباعاً كاملاً عن مسيرة هذا الجاهل الغافل كيف أصبح كالكلب في لهاثه فهو دائب الحركة واللهاث من حيرته التي جعلته ينسلخ من معرفته كما ينسلخ الجلد عن اللحم واستعمل كلمة (ينسلخ) دليلاً على فظاعة ما ارتكب في حق نفسه من جرم أتى عليه وجعله من الغاوين .
ونجد في آيات أخرى صورة الإنسان الذي تكون حالة العقيدة عنده غير مستقرة، ولا يحتمل ما يصادفه من الشدائد بقلب قوي وثابت .فيرسمه لنا وكأنه يعبد الله على (حرف) فكأنه يقف فوق صخرة تستقر فوق حافة جبل وهي غير مستقرة أي أنها تتحرك وكأنها تريد أن تهوي إلى الأسفل ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ،فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة )
هذا المشد يرسم لنا خيالاً يجسم هذا الحرف الذي يعبد الله عليه هؤلاء الناس ، ويرسم أيضا ًحالة الاضطراب الحسي في وقفتهم وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب والسقوط .
وننطلق إلى مشاهد القيامة في القرآن فنرى فيها دقة التصوير التي لا يضاهيها أي تصوير يمكن للإنسان أن يقوم به لمشاهد حية يراها أمامه فكيف بلغة يستخدمها القرآن ليحكي لنا من خلال ألفاظها مشاهد غاية في الدقة والروعة .إن مشاهد القيامة في القرآن من أبرز مواضع التصوير فيه وهي التي تنطبق عليها جميع سمات التصوير الفني من التناسق الفني إلى الصورة التخييلية الحسية والمجسمة.
لقد عني القرآن بمشاهد القيامة من بعث وحساب ونعيم وعذاب وعناية خاصة وانتقل المشهد فيه من لغة وصفية إلى مشهد مصور محسوس يزخر بالحياة , وقد كانت هذه المشاهد التصويرية للعالم الأخر عاملاً مهماً في تأثر المسلمين به فرأوا مشاهده , وخفقت قلوبهم سعادة بالنهايات السعيدة للمؤمنين وانخلعت قلوبهم رعباً من النهاية المخيفة لأولئك الذين كانوا في غيهم سادرين لا يحسبون ليوم القيامة حساباً .
ويعرض القرآن عالمنا الدنيوي عرضاً واضحاً و بسيطاً لا يحمل أي تعقيد . فهناك حياة نحياها ثم موت ينهي مسيرة حياتنا الدنيا ونحن لاهون عن الآخرة بالتكاثر بالأموال والأولاد ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر . كلا ستعلمون ثم كلا ستعلمون ، لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم , ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) وانتقال إلى الدار الآخرة , فإما نعيم مقيم نتيجة أعمالنا في الحياة الدنيا وإما عذاب كما بينت لنا الآيات . ونلمس في هذه السورة إعجازاً لغوياً رائعاً عندما يختصر الحياة الدنيا كلها بكلمة ( ألهاكم التكاثر ) والحرف ( حتى ) الذي اختصر به المدة الزمنية بين الحياة والموت . 
فالمؤمن سينال الجنة جزاء إيمانه , وأما الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله فلهم النار بما فيها من عذاب شديد . وهناك لن يرى الإنسان من يشفع له إذا كان كافراً بربه , وسيحاسب حساباً عسيراً ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) . 
في ذلك اليوم لا يمكن أن يفتدي أحداْ بأحد حتى ولو كان هذا الأحد ولده . هذه الحقيقة البسيطة الواضحة يعرضها القرآن في صور كثيرة ترسم من خلالها عالماً كاملاً حافلاً بمشاهد تؤلف ملاحم فنية رائعة تتملاها النفس ويتابعها الخيال مستغرقاً فيها بأحاسيسه كلها , بل إنه يعيش فيها بكليته .
وتتسم المشاهد القرآنية لعالم يوم القيامة بأنها مشاهد حية منتزعة من عالم الأحياء , وليست مجرد ألوان وخطوط جامدة تعرض بالألفاظ , وعندما تعرض نشعر كأنها حاضرة أمامنا نراها بأعيننا ونحسها بمشاعرنا .
وسمة ثالثة تتضح في صور القرآن الكريم هي التناسق الفني الذي يتجلى في جزئيات المشهد , فتبدو هذه الجزئيات منسقة بين بعضها يجمعها لون من التماثل أو التشابه أو التفاؤل . 
هذا التناسق يعطي الصورة الفنية مزاياها الرائعة , إذ ترسم الآيات في السورة الواحدة مشهدان متقابلان كل منهما يحمل في ملامحه صورة تعبيرية تظهر مضمونه في مظهر واضح ومعبر .
 وسنعرض لأمثلة تبرز تكامل المشاهد الفنية القرآنية من خلال الصورة المعبرة بكل تفاصيلها من جزئيات لفظية صغيرة إلى مفردات قرآنية حية تمثل مشهداً متكاملاً.
ففي سورة الحج نقرأ قوله تعالى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم , يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت, وتضع كل ذات حمل حملها , وترى الناس سكارى , وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) .
في هذا المشهد نرى الصورة تحفل بكل مشاهد الرعب الذي يصيب الناس , حتى أن الحامل تسقط حملها وتذهل المرضعة عن رضيعها وتشاهد الناس يترنحون من شدة الخوف والجزع وكأنهم سكارى ولكنهم ليسوا كذلك فهذه المشاهد المفزعة جعلتهم يصابون بالذهول والفزع فاضطربت حركاتهم وجعلتنا نتفاعل معهم فترتجف قلوبنا معهم لهول اليوم العظيم, وترتعش نفوسنا خوفاً من ترقب اليوم الذي نرى صورته من خلال ألفاظ نطقت بها آيات كريمة رسمت ذلك المشهد ببراعة وإعجاز لا يصل إليه أحد في العالمين .
وفي مشهد آخر يعرض لنا الله عز وجل مسيرة الإنسان في حياته وهداية الله تعالى له وكيف أن الأمر كان متروكاً له : إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا , إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا . إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا , يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا , ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا , إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا , فوقاهم الله شر ذلك اليوم , ولقاهم نضرة وسرورا , وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا , متكئين فيها على الأرائك . لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا . ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا . ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا . قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا . عيناً فيها تسمى سلسبيلا . ويطوف عليهم ولدان مخلدون , إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا , وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيرا . عليهم ثياب سندس خضر واستبرق ,وحلوا أساور من فضة , وسقاهم ربهم شراباً طهورا . إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكورا ). 
( إن هؤلاء يحبون العاجلة , ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً ) .
تبدأ المشاهد بعرض موجز عن الإنسان ذلك الكائن الذي خلقه الله فجعله في أحسن تقويم ( سميعاً بصيراً, ثم هداه إلى طريق الحق وصوره له أمامه ثم ترك له حرية الاختيار ( إما شاكرا وإما كفورا ) ثم يبين له نهاية كل طريق فطريق الكفر سيؤدي به إلى الجحيم مقيداً بسلاسل العذاب ( إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا ) . هذه الكلمات الثلاث أوجز بها الله سبحانه وتعالى مشهد العذاب الرهيب الذي سيلقى به الكفار .أما المؤمن فإنه يقدم له صوراً مفصلة بوضوح أكثر ليرغبه إلى طريق الإيمان (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا.عينا ًيشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) فالأبرار يشربون من كأس صافية حلوة الطعم مزاجها (زنجبيلا)وقد تعدد ذكر الكأس التي يشرب منها المؤمن في الجنة مرة يكون مزاجها كافوراً ومرة نرى إنها من تسنيم والآن مزاجها كما ذكر زنجبيلا .فالكأس متعددة الموارد وكلها يتوق إليها المؤمن لأنها خلاصة التمتع بالحياة السعيدة الهانئة . وهؤلاء المؤمنون الذين يشربون من هذه الكأس (عباد الله)هم قوم يطعمون الطعام للمسكين واليتيم والأسير ويفعلون الخير لوجه الله لايريدون من الناس أن يقدموا لهم جزاء عملهم أي شكر وأجر(يؤمنون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا،ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا،إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا).
وهم قوم يخافون الله ويخشون عذابه في يوم عبوس قمطرير(وللنظر إلى كلمة قمطرير وما فيها من قسوة في اللفظ وغموض يبعث على الرهبة والخوف ).
ولكن الله سبحانه وتعالى يقيهم شر ذلك اليوم وبدله لهم بيوم فيه النظرة والسرور ولباس الحرير . وانظر إليهم في جلستهم المريحة الناعمة والسعيدة وهم متكئون على الأرائك لا تمر الشمس عليهم بحرها اللاهب ولا البرد بزمهريره القارس .
(لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا) ثم تكتمل صورة المشهد بأشجار الجنة الظليلة التي تقترب أغصانها منهم حتى يقطفوا ما يشتهون من فاكهة الجنة .
ولايقف المشهد عند ذلك بل نرى الولدان الذين يطوفون عليهم (بآنية من فضة )شفافة لاتحجب ما بداخلها كأنها البللور في صفائها بل أكثر وأنعم ،وهذا هو منتهى النعيم الذي يصل إليه الإنسان في تصوره فكيف بالذي لا يمكن للعقل أن يتصوره وسيحدث مثل ذلك في الجنة .وهؤلاء الفتيان كأنهم اللؤلؤ المنثور ويختم المشهد بصورة النعيم والملك الكبير الذي يناله المؤمن وكل هذا الذي حصل عليه المؤمن جزاءً لسعيه المشكور في الخير وفي مشهد آخر يصور القرآن الكريم في سورة الحج خصمين اختصما في ربهما فأحدهم كفر بالله والآخر مؤمن بالله (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ).
( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ،يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً،ولباسهم فيها حرير ،وهدوا إلى الطيب من القول ،وهدوا إلى صراط الحميد ).
يظهر المشهد القرآني في الآيات صورة لحركة عنيفة صاخبة (هذان خصمان اختصموا في ربهم )وهو حافل بالحركة مطوق بالتخيل الذي يرسمه النسق القرآني للآيات فلا نكاد نرى خيالاً ينتهي من حركة حتى تتابع الحركات الأخرى متتالية . 
فهذه ثياب من نار تقطع وتفصل ، وهذا حميم يصب فوق الرؤوس (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ،يصب من فوق رؤوسهم الحميم ).
وهذا الحميم يصهر ما في البطون والجلود وهذه مقامع الحديد تضرب رؤوسهم ،إنه العذاب الذي يصب فوق رؤوس هؤلاء الكفار ويشتد ويشتد حتى يتجاوز كل التخيلات التي يمكن للإنسان أن يتخيلها ونراه يصور حركتهم الراعبة التي تبين جزعهم وألمهم فهم يحاولون الخروج من هذا الجحيم ولكن هيهات فلا خروج منه أبداً (كلما أرادوا أن يخرجوا من الغم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق) .
وفي الجانب الآخر من المشهد نجد المؤمنين وهم يجلسون فرحين سعداء في الجنة والأنهار تجري فيها فهم آمنون مطمئنون لباسهم الحرير (وهنا مقابلة تجري بين الصورتين )فالحرير مقابل ثياب من نار ،ويلبسون قلائد من ذهب ولؤلؤ (مقابلة أخرى تظهر الصورة المضادة للصورة الأولى وهذا يوحي لنا بالفكرة القائلة (والضد يظهر حسنه الضد)أما هنا فالصورة تبلغ في تعبيرها مرحلة أعلى بكثير لأنها تنقل لنا مع الصورة الأحاسيس والمشاعر التي تلف كلا ًمن المؤمنين والكفار كل في موقعه .
ويختم المشهد بقوله عز وجل( وهدوا إلى صراط الحميد ).
إنها النهاية السعيدة التي يدعو إليها الله عز وجل بني آدم . هذا الإنسان الذي قدم له ربه كل وسائل السعادة والراحة والكمال ولكنه في كثير من الأحيان أصابه الغرور وعمي عن معرفة الحقائق فأصابه وابل من نقمة الله عز وجل تنبيهاً له على خروجه عن هدي الله وطريقه الحميد .
وفي نهاية المطاف لا بد لنا من أن نذكر أن الصورة القرآنية بلغت من الإعجاز الفني ما لا يستطيع بشر أن يقترب من حدودها مهما علت رتبته في النبوغ والعبقرية الأدبية والبلاغية وهذا دليل من الأدلة الكثيرة على أن القرآن الكريم هو المعجزة الحية الخالدة التي لا تخلق على مر الزمان بل هي متجددة وكل جيل يرى فيها إعجازاً لايراه الجيل الذي قبله.
و بالمحصلة يكفي العرب شرفاً أن القرآن نزل بلغتهم و جعلها لغة عالمية كما حفظها من الضياع فلولا القرآن لضاعت اللغة العربية كما ضاع غيرها من اللغات كاللاتينية التي تفرعت إلى لغات متعددة .و لأصبحت اللهجات المحلية لغات أخرى مستقلة عن الأصل العربي و لكن الله تعالى حفظها بقوله ( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ).

د عبد الحميد ديوان
***********************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق