بين حمام وحميم
بقلمي سيدة بن جازية
تونس
في البدء كان الخوف يحيط بالحمامة في ذلك القن اللامتناهي بين أكوام القراطيس و الأوراق و الحراشيف و أكداس القمامة والغبار و الفوضى ، حيث النور الخافت المنبعث بين الفتحات و الفجوات التي تسمح بها أغصان الأشجار الغابية في الواجهة الخلفية للبيت الريفي المهجور.
كانت حمامتنا التليدة ترغب في الطيران كبني جنسها من طيور القرية الجبلية البعيدة في الشمال الغربي لبلادنا العريقة ولكن قد كبلوا روحها بالمخاوف والعراقيل و العجز و سوء التدبير و خيبة المصير إن أغراها مجرد التغيير أو حتى التغريد في قنها القميء ، حبسها اللصيق ؟
أرهبوها من فكرة التحليق و أهوال العالم العلوي الدقيق ،
وقانون الجاذبية وأسرار الجاهلية في قرية خلفية للبلاد التونسية . فلم تتجرأ على استعمال الجناحين حتى كادت تنسى أنها من فصيلة الطيور وأنها خلقت لتكون في الأعلى مع صنف يضاهيها القدرة و الاستطاعة على الفعل المكين ، أنسوها أنها ولدت من " رحم " الحمام ،خلقت للريشة ومن أمهات الريش لتحسن التواصل والعيش دون عنف دون خوف أوتجبيش..
هجرت العصافير المزقزقة و المتلعثمين وركنت مع بقية الأنعام لا يشغلها غير العلف و المضجع و ماء الحياة المهين .
كيف لا وقد كبلتها يد العدم و الجدب عن العطاء الجزيل لتعمى عن الرؤى و الهوى و كل المنى . فيصمت الضمير وتهجر كل بصير لحرية الاختيار و التعبير ..
ترقب باقي الحمام في أمن هجين على فوهة بركان عظيم راكد ينتظر رنين الحمم في القاع الحميم و السعير.
كانت نبوءتها صادقة أن الحمام لا يطير إلا اذا فك طوق الحديد وٱمن بالمصير فهل لها من نصير ؟!
لا جدوى من النحيب إذا تشابه الحمام في قرية العميان وأنجبت جيلا وراء جيل لا يؤمن إلا بما أورثتهم من معتقد البهائم والحمير سالبة إياهم حق الحلم كطير طليق و أن الأعالي به تليق دون عناء أو تلفيق . لكن اختفى الريش في الظلامات حيث ضل السبيل ليترك للغربان التحليق والتدقيق وغاب منذ ذلك العهد السلام والأمان للأنام وسائر الكائنات والأنعام و الأشجار السامقات و التين والزيتون و الكرم و الليمون و النجم و الغمام تاركا الغربان تنشر الظلم والظلام و الشؤم للئام و ابناء الحيل والحرام دربها حطام لكل الحمام الأصيل .
لا مفر من إعادة الطريق وتعبيد الأخاديد كي تعبر الزواحف و البعير و النوق و الحمير في صراط مستقيم .تأبى الثورة و التغيير أو حتى مجرد الحسيس كي لا تخسر لقب المسكين و الطاهر الأصيل و شرف الحريم في قصر سلطان يدهس بجواده أحلام الحمام الوديع المطيع عندما يحل الجور و يضيع حق الأسير الحليم .
أما ٱن للحمام أن يطير ، ما فائدة ما حصله من معارف وخبرات و شعر ولغة أديب و هديل و ما تبادل من رسائل و كتابات الأسير و الأمير و فك طلاسم الجموع المقهورين في قرية النسيان والخضوع للحفير و الخفير .!!؟
جرب وحاول دون إرادة لكن كل مرة يرجع حمامنا كسيرا .
ما فائدة الريش إن لم تستعمله للكتابة أو التعبير أن تحلق وتطير فوق قفص الجبن البغيض و تنسى فكر العبيد و الجهد الجهيد ؟!
ما فا ئدة العطاء إن لم يكن الجزاء وفيرا ولذاتك وقيرا ؟!
حلق عاليا ولا تخف من سطوة العجز الكبير إنه الوهم الوهين ؟!
حاول ولا تخشى السقوط فسقوطك أشرف من صحبة الحمير و رضاك بحمل ريش دون تغيير أو تغيير ؟!
استنسر دون استغراب وانس الكابوس اللعين كي ترقى إلى مرتبة حمام السلام الأمين يفوز ريشك بالشكر الجزيل
فلا تنسى ذكاء المطوقة وفطنة الزاجل و سلام البيض و مجدك العريق مع حروب العشاق و الديار و النار و الدين .
للعربية فز وكن كالعادة خير نصير هاقد استرجعت ذاكرة الحمام قبل أن تطير و غمرتك المعاني و المباني في طريق التحرير الطويل .
يا حماما طال انتظاره لتذوق شهد الكلام و رطب النيل
في العلا ترنو شاهقا إلى القمم العالية حيث المقام الرفيع ،
تزقزق العصافير فرحا بيقظتك دون بقية البعير .
فمن ينصر الحمام غير العصافير بين الحين و الحين.
كن شاكرا لمن قدم لك العون قبل أن تنتف الريش و تعلن الرحيل المرير.
ضع رحلك والصواع وتوج رأسك بتاج تصنعه من لٱلئ صبرك
و استبرق و حرير تدنو قطوفك فلا تعطل ذاك السبيل .
هذا نصحي فإنه لا يأتيك إلا من صديقك الحميم .
روح لا تخنك لأنها الضمير . فأعلن البشرى كي تغنم نصرة النسور و الصقور يكفيك صحبة البعير و الحمير .
لا تهتم لفقد قنك الوضيع فخلفه نور ساطع و قول بليغ
واسع لبناء عشك فوق شاهق القمم حيث الربيع لا يتيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق