من مؤلّف "موسوعة كنوز اللّغة"
إلى من يهمّه الأمر ....
تمثّل اللّغة، للمجتمعات والأمم، وسيلة لنقل معارفهم وتجاربهم وعلومهم وثقافتهم. فيقع تمريرها من جيل إلى جيل ومن قرن إلى آخر وتحوي تاريخهم عبر العصور ليكون النّظر فيه مستمدّا للعبر، وتكون الاستفادة منه أكيدة. كما يكون للّغة دور فعّال في حفظ الآداب وخصوصيّاتها وتميّزها عن غيرها للحفاظ على المخزون الإنسانيّ الدّالّ على الأصالة فيكون مرجعا قوميّا يُحصّن التّليد من الطّارف.
وتتبارى المجتمعات اليوم، في إبراز أصالتها بالحفاظ على التّراث القديم الأثيل والتّذكير به وتَمثّله
في مناسبات متكرّرة، مثل ما كان في السّابق أو مطعّما بالحداثة.
ولا شكّ في أنّ اللّغة، مثل أيّ كائن موجود، تتطوّر بالاستعمال وتحفظ بالممارسة كما أنّها تنقرض بالإهمال وتتأثّر بالمثاقفة سلبًا أو إيجاباً، وتكون قدرتها على التّأثير كبيرة عندما يكون مستعملوها ماسكين بناصية التّقدّم والحضارة، متملّكين للعلوم والتّقنيات، قادرين على تطويعها في التّجديد ومسايرة ركب الحداثة. أمّا إذا كان مستعملوها من المجتمعات الفقيرة أو المتأخّرة اقتصاديّا وعلميّا فاقدين للقدرة على تطويعها لمسايرة تطوّر العلوم والتّقنيات وتوليد المفردات الجديدة من أصلها الثّابت، فإنّ استعمالها يقلّ في عقر دارها وتغزوها، معجميًّا، لغات الأمم المتقدّمة.
وتعتبر اللّغة العربيّة أثرى اللّغات، على الإطلاق، في العالم، فهي لغة غير سَلْسَلِيّة وتُغْنى بالزّيادات والاشتقاقات المتعدّدة، إلى جانب وفرة جذورها الثّلاثية والرّباعيّة والخماسيّة وتفاعل هذه الجذور فيما بينها.
إلاّ أنّ استعمالها، في المجتمعات العربيّة، بدأ يتراجع بشكل غريب ومخجل، وقدرة أبنائها على توليد المعجم العلميّ منها صارت منعدمة ممّا يجعل مستقبلها، على المدى المتوسّط والبعيد، معرّضًا للخطر إن لم نقل للانحسار. وزاد طينها بلّة ظاهرة اللّحن المُهينة الّتي تفشّت في الإعلام، فمقدّمو البرامج الإخباريّة ومنشّطو الحلقات الحواريّة يستبيحون اللّغة استباحة المنكِّل، أمّا المتدخّلون المرتجلون فحدّث ولا حرج. و أمّا خطباؤنا في المحافل الإقليميّة أو الدّوليّة، فلهم دورهم في الفتك الذّريع الوحيّ بالقواعد النّحويّة، تحت أنظار العالم وأسماعهم، وهذا أَمر صار مُعْتادًا. وزد على ذلك ما تفشّى الآن في المجتمعات العربيّة، خاصّة لدى الشّباب المثقّف والمحلّلين والخبراء ، من استناد متواصل إلى اللّغات الأجنبيّة بِداعٍ وبدونه حتّى أنّنا، في تونس مثلاً، لا نعلم إن كان المتحدّث عربيًّا أو أجنبيًّا.
وقد بدأت الأصوات تتعالى من كلّ قطر أفرادًا وجمعيّات تدقّ ناقوس الخطر وتدعو إلى التّحرّك العاجل السّريع لإعادة الاعتبار إلى لغة القرآن والعمل على الاهتمام بها على كلّ المستويات والأصعدة. وانبرت الجمعيّات والقطاعات وبعض الحكومات لأخذ بعض الخطوات الملموسة لتشجيع النّاشئة على تحسين زادهم اللّغوي وتطويره ورصدت بعض الدّول جوائز لتشجيعهم على ذلك. لكن الحلّ يبقى ظرفيّا ومنقوصًا ما لم نتوخّ مُعالجة جذريّة لهذه المعضلة. فاللّغة العربيّة الّتي مثّلتُها بغابة مَطِيرة تحتوي على كلّ أصناف الأشجار وضروب الشّجيرات وأنواع الأعشاب، يتيه فيها الباحث عن مفردة يحتاجها أو كلمة يستعملها في مقامها الصّحيح أو تركيب يثري به موقفًا أو صيغة يُحلّي بها كلامًا. وهذا ما اهتديت إليه: إعداد مجموعة من المؤلفات (جهاز لغوي) تقرّب اللّغة العربيّة من أبنائها وتيسّر لهم البحث عمّا يحتاجونه من المفردات والتراكيب والصِّيغ في مختلف المواقف والمواضيع وتكون مراجع لكلّ راغب ومصادر لكلّ ذي حاجة.
فقد اطّلعت على كامل الزّاد اللّغوي الوارد في أمّهات المعاجم العربيّة قديمها وحديثها، باستثناء ما ذهب من كلام العرب شماطيط، ومنها بالخصوص : تهذيب اللّغة للأزهري ولسان العرب لابن منظور والمعجم الوسيط والصّحاح في اللّغة وكتاب العين...
ثمّ صنّفتها حسب المجالات والمواضيع. فكان منها ما يتعلّق بالقواعد اللّغوية الّتي لاحظت بها، من موقعي كمدرّس للّغة العربيّة ثمّ كمساعد بيداغوجيّ، خللاً أو نقصًا وأهمّها : المصادر السّماعيّة للأفعال الثّلاثيّة المجرّدة، وانعدام توفّر جداول التّصريف لجميع الأفعال الثّلاثيّة المجرّدة، وجموع التّكسير الواردة على غير قياس.
وكان منها ما تعلّق بالمعجميّة فخصّصت كتابًا لدلالات الأفعال في كلّ مجالات الحياة البشريّة
وكتابًا للأوصاف وكتابًا للحيوان وكتابًا لمثلّثات اللّغة وكتابًا لرباعيّاتها وكـتابًا للإتباع والتّرادف وكتابًا لمعجميّة اللّغة بين العامّيّة التّونسيّة والعربيّة كتابًا لدررها وغررها . كما خصّصت كتبًا لكماليّات اللّغة يظهر فيها جمالها وطلاوتها وحلاوتها وأناقتها ومنها: مبلغ الأرب منها والألغاز الشّعريّة ذات المنحى اللّغوي والجناسات اللّغويّة التّامّة ، بحيث غطّت مؤلّفاتي كلّ ما يحتاجه الرّاغب في إثراء زاده اللّغوي والباحث في أي مجال من العربيّة في سهولة ويسر وشموليّة ودقّة. ولقد سمّيت مجموعة هذه المراجع "موسوعة كنوز اللّغة" وعملت جاهدًا طوال ثلاث عشرة سنة لتكون كذلك.
الآن، هذه الموسوعة جاهزة بعد مراجعتها وتدقيقها وإخراجها وتسجيل حقوق تأليفها وتسجيلها بالمكتبة الوطنيّة بأرقام الإيداع القانوني . وقد جعلت لها غلافًا مُوحَّدًا ذا رمزيّة خاصّة ، فخلفيّته منظر صحراويّ يمثّل الجهل، عليه شكل رأس يحتوي ماء يرمز إلى العلم تكون نتيجته في ظهر الغلاف خضرة ونباتًا حسنًا. وقد أصدرتها كاملة على نفقتي الخاصّة.
لقد قمت بواجبي تُجاه لغتي في التّأليف وقضّيت خُمس عمري مجتهدًا فيها، وأنتظر من يقوم بواجبه في النّشر والعَوْنِ والتّبنّي والمعاضدة.
ألا هل بلّغت اللّهمّ فاشهد.
المؤلّف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق