مجلة ضفاف القلوب الثقافية

الأحد، 29 يناير 2023

كذب مرضي بقلم ماهر اللطيف

 كذب مرضي 

بقلم: ماهر اللطيف


يبدو أنه مريض بهذا المرض المزمن منذ مدة طويلة، وربما منذ نعومة أظافره إن لم أجزم انه ورثه عن أهله وذويه - رغم معرفتي الجيدة للعائلة وسلامتها من هذا الداء ولو ظاهريا-.

فكان الوهن يتغلغل فيه يوميا ويستفحل في عقله وجسده إلى أن بات جزءا لا يتجزأ منه، بل إنه أضحى أهم جزء ومكون له ولذاته وسلوكه الذي خرج عن كل سيطرة وحاد عن سوي الطريق جملة وتفصيلا.


ورغم ذلك، فقد حرص كل من احتك به وخالطه على إعانته ومده بالنصح والإرشاد والتوجيه عساه يعود إلى الجادة ويتوب إلى رشده قبل فوات الأوان، لكنه كان يتعنت ويتشبث برأيه وقوله ونهجه ضاربا عرض الحائط بردود أفعال المتعاملين معه مهما كانت درجة قربهم أو بعدهم منه.


وهذا ما سبب له الأذى والأذية وعاد عليه بالوبال كلما حاول الاستقامة والاستنجاد بالصدق ولو للحظات عند الحاجة كالمرض والإفلاس والشعور بالندم وغيرها من المواقف المحرجة التي تجبره وقتيا على هجر الكذب والاحتراف فيه إلى درجة الانصهار والذوبان وهو الذي يكذب أكثر مما يتنفس ويتبنى ما يدعيه إلى أن يصدقه ويجعله حقيقة ملموسة لا يمكن دحضها أو تكذيبها من أي كان بالنسبة إليه.


وقد خسر عمله وأصدقاءه وخطيباته وكل من خالطهم في حياته على امتداد العقود الأربعة التي عاشها إلى حد الآن، كما وأد ثقة أهله فيه واحترامهم له إلى أن امسى مجرد إنسان يعيش بينهم لا يرجى منه شيئا غير المشكلات والفتن والادعاءات الباطلة وجبال الهموم التي يتسبب فيها للمتعاملين معه والتي وصلت إلى العراك والخصام والفراق وحتى الطلاق بين الأزواج وتشتيت العائلات.


وأذكر مرة أنه قرر التوبة والإقلاع عن هذه العادة وهذا المرض الخبيث فاتجه إلى جامع الحي بعد أن اغتسل وتتطهر واستعان بطيب الروائح وصلى مع المصلين صلاة الجمعة - التي كان موضوعها صدفة " التوبة الحقيقية وما تعود به من نفع على التائب في الدنيا والآخرة" -، ثم اتجه نحو الإمام طلبا في العون والهداية والنصح والتوجيه - وكان الإمام يعرفه حق المعرفة بما أنه جاره الأزلي -، فرحب به الخطيب وابتسم في وجهه قبل أن يقول في حضرة بعض المصلين بكل ثقة في النفس وهو يتلو بعض الآيات القرآنية المؤيدة لرأيه وموقفه تجاه حالة جاره:


-. فالكذب هو قول مخالف للحقيقة ولأمر أو واقع، فعندما نقول كذب فلان على فلان فهذا يعني انه تكلم معه بحديث لا يمت للواقع بصلة، أي إما أنه زيف الحقائق جزئيا أو كليا، أو اختلق رواية وأحداثا جديدة بنية الخداع أو حتى المزاح لتحقيق هدف معين.


- (مخاطبه بلهفة) وهل هذه الحالة خطيرة؟ ماذا يقول فيها الدين؟


- (مبتسما) الكذب فعل محرم في الإسلام وفي اغلب الأديان، وقد يكون بسيطا في البداية، لكن إذا تطور ولازم الفرد قد يصل إلى درجة الكذب المرضي الذي يقترن بعدد من الجرائم مثل الغش والتحايل والسرقة والفتنة وغيرها.


- (مقاطعا) أظنني وصلت إلى هذه المرحلة أو كدت


- (مؤيدا برأسه ومواصلا بسلاسة) عموما فان الكذب خصلة سيئة جدا لأن الإنسان يقدم نفسه من خلاله تقديما خاطئا بعيدا كل البعد عن حقيقته، ولا تنس قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في سورة غافر آية 28 "إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب"، وفي سورة الحج آية 30"واجتنبوا قول الزور"، والزمر آية 32" فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه".


وواصل الإمام استعراض الآيات وحث مخاطبه على الإقلاع عن هذه العادة السيئة والتسلح بالصدق والارتواء من بحر التوبة ومياه الإيمان الطاهرة النقية وما تحتوي عليه من طهارة ونظافة تجبّ ما سبقها بإذن الله إن كانت توبته صادقة.


فاعتقد الجميع حينها أن هذا" التائب" صادق فعلا وانه لن يعود إلى صنيعه بعد هذه الجلسة تفعيلا لمقولة ويليام شكسبير " لا يوجد إرث غني مثل الصدق"، وفعلا حاول ذلك وقلل من كذبه في مرحلة أولى بعد أن عاد الطب النفسي أيضا - الذي أقر بأصابته ب"اضطراب الكذب القهري"، وهو اضطراب عقلي يكذب فيه الشخص بشكل معتاد أو قهري، ومع ذلك، يمكن أن تكون هذه الحالة من أعراض الاكتئاب أو القلق أو السيكوياتية أو الاضطراب ثنائي القطب أو الوسواس القهري أو اضطراب الشخصية النرجسية -، واستمع إلى العديد من الأشخاص والناس المعروفين بحكمتهم ومعرفتهم لمثل هذه الأمور، لكن "ما بالطبع لا يتغير "، و"الطبع يتغلب على التطبع" و" من شب على شيء شاب عليه".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق