الجزء الثاني
تكاتف الجميع وأقنعوا سحر بمهنة التعليم.
استقبلت الراهبات طالبتهم ما قبل الجامعة، وأبوها والكاهن ميشيل بحرارة ملفتة، وكم أسعدهم عودة سحر لتكون من كادر المدرسين...
قالوا تبدأ المدرسة في منتصف أيلول أي بعد شهر تقريبا. لكن اعتبري ذاتك موظفة عندنا من هذه اللحظة، فقط استكملي أوراقك الثبوتية المطلوبة، هذه أوامر السلطات المعنية.
وقالوا لها: سيكون لك مكافآت مجزية، غير راتبك من أجل نشاطك تعليم التلاميذ والطلبة الموسيقى، نحن نعرف مقدراتك بالمجال...
قال الأبونا ما أسعد الناس الذي يقطنون بجانب مكان عملهم، كم يكتسبون من الوقت الضائع في الذهاب والإياب إلى مراكز شغلهم؟ سحر عملها بجانب بيتها وهذا حظ قلما يتوفر لأحد.
أخيرا سحر توظفت وانتهت عذابات العائلة، فدارت الأفراح في بيت أبو سحر، أحضر أبو سحر جرن القهوة الخشبي المصدف، وأخذ يكسر حبات القهوة المحمصة بضربات قوية وبلحن راقص مميز معلنا بأن فرحا حقيقيا طرق باب العائلة. أم سحر أشرق وجهها بالابتسامات وأضحت البشاشة تملأ محياها. هدى تمايلت ترقص على موسيقى نقرات جرن القهوة.
طلب أبونا ميشيل من سحر أن تعزف لهم بعض المقطوعات احتفالا بهذه المناسبة السعيدة...
استغرب الجميع لمَ سحر تعزف ألحاناً حزينة بدلاً من ألحان الفرح...
هي أدركت بأن الجميع يسيرون في جنازتها، ولا أحد منهم سألها إذا كانت هي سعيدة بهذه الوظيفة الفخر التي نالتها... اغرورقت عيناها بالدموع، وأخذت تعزف لحنا جنائزيا تشيع به ذاتها...
ومع ذلك كتمت حزنها، ولم تنطق بحرف واحد، لقد استسلمت لمصير شعرت بأن هذا هو قدرها، لا مجال للهروب منه... أين المفر، وجميع الأبواب موصده أمامها، عجزت أن تجد طريقا يخرجها من تلك المتاهة المستعصية، لا تريد وظيفة، ولا ترى أمامها غير الوظيفة، وأحلامها تتراقص سرابية تائهة سحابية... عندما لاحظت بأن الجميع مستغربين الدموع في عينيها، قالت مازحة، إنها دموع الفرح...
لكن الحقيقة هي دموع ألم دفين وجراح نازفة، أحست ذاتها تشبه الشاة المكبلة غير القادرة على الحراك، فاستسلمت لسكاكين الجزارين. وقالت الشاة المذبوحة لا يهمها السلخ، طالما لم يكن كما نريد، فلنكن كما يراد...
لاحظ الجميع بأن سحر لم تعد تعزف الحاناً مفرحة، بل باتت جميع نغماتها حزينة، كما إنها لم تعد تضحك، ولا تحكي نكات تسر أهلها، كما كانت تفعل في السابق.
أمها أخذتها الظنون بعيداً، بأن ابنتها عاشقة، تحب أحدهم وربما هناك خلاف بينهما... وأخذت تتودد إلى ابنتها لتعرف أسرار حزنها.
عندما يسألونها ما بالك يا سحر تبدين حزينة؟ رغم إنك اكتسبت عملاً تتمناه أغلب صبايا الشام...
كانت تهز رأسها وتبتسم ابتسامة خجولة باهتة حزينة، وتقول بسرها حتى أهلي لا يفهمونني، كيف أنا اعتب عليهم، طالما أنا لا أفهم ذاتي بعد، كيف هم سيفهمونني، أنا ما فتت لا أفهم ذاتي. لا أعرف هواياتي، لا أعرف رؤيتي ومقدراتي بعد...
كانت تتردد إلى الكنيسة، تركع تصلي وتقول يا رب لتكن مشيئتك لا مشيئتي... أنا استسلمت لقدري المكتوب، لو كان لي حظ أوفر لصادفت طريقًا يسعدني. ذاك العمل الغائب الذي لم اوعاه بعد؟ لكن يبدو لي أنت من اختار لي وظيفة معلمة، لك الشكر والحمد، أنت العليم بنا أكثر من علمنا بحالنا...أنت تعطينا ما يفدنا، وتبعد عنا ما يضرنا...
كاد شهر آب أن ينتهي، وقد اقترب موعد افتتاح المدارس، لكن يبدو بأن سحر لم تعد متشنجة كالسابق، لقد استسلمت للقدر وأقنعت ذاتها بأن مشيئة الله هي مصير لا اعتراض عليه، وقالت بذاتها أيضا: علينا أن نقتنع تماما بأن الله يمهل ولا يهمل، وكل شيء يأتي في الوقت المناسب... سوف تتبدد الغيوم، وتشرق شمس الحياة...
تلك الأمسية، كانت سحر تحتسي القهوة بجانب بحيرة الدار. أهلها وأختها ذهبوا بزيارة يهنؤون أصدقاء لهم بمناسبة فرح، سحر اعتذرت، الحقيقة لم يعد الفرح موجوداً بداخلها، حلت محله تعاسة استوطنته، جعلتها تحب الوحدة والانعزال عن العالم.
صادف وجود مجلة على الطاولة، أخذت تقلب صفحاتها بدون اكتراث لأي موضوع فيها. فجأة لفت نظرها صورة اعلان من الخطوط الجوية السورية تطلب مضيفات جويات يعملن على متن خطوطها حول العالم...
جحظت عيناها على الإعلان وأيقظت كل حواسها وانتباهها، وأعادت القراءة كل الحروف والكلمات...
توهجت رؤيتها ونضجت الفكرة في ذهنها، وصاحت بصوت صاخب، هذا هو العمل الذي أبحث عنه. هذا هو ولا عمل غيره... مضيفة طيران سأمتطي الشهب، وسأجوب العالم، وأخذت تغني فرحة، لقد وجدتها، لقد وجدتها...ثم نهضت ترقص وتدور حول البحرة وتعيد الكلمات مرات: هذه هي الوظيفة حبيبتي، لقد جاءت لزيارتي...
إلى اللقاء في الحلقة 3
كاتب القصة: عبده داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق