بقلم :ماهر اللطيف
ها قد ظهر الإشهار التلفزي - مسابقة الرسائل الهاتفية للفوز بسيارة فخمة عبر الإجابة على الأسئلة المطروحة هناك وانتظار القرعة لتحديد صاحب الحظ الذي سيكون الفائز الوحيد بهذه الهدية القيمة - الذي انتظره كل يوم مرارا وتكرارا لأشارك فيه عسى الحظ يبتسم في وجهي وأكون المتوج الوحيد في نهاية هذه المسابقة المتجددة في أغلب القنوات التلفزية.
وقد كان خطيب أختي الصغرى يشاركنا السهر في منزلنا المتواضع تلك الليلة الشتوية التاريخية في بيت الجلوس وشهد على ما نقوم به - أنا وبقية أفراد عائلتي وكنا نرسل الرسائل بشغف ونهم كبيرين ونمني الأنفس بالفوز هذه المرة بعد أن نغزو الموزع الصوتي ونغرقه بمساهماتنا الكثيرة التي لم نعد نحص عددها -.
فكان وجهه يتلون ألوانا ألوانا وهو يلتزم الصمت ويتصبب جسده عرقا، يتملل ويفرك كفيه حينا ويمسح عرق جبينه بمنديله الورقي حينا آخر، يحتسي ما تيسر له من الماء والشاي حينا آخر، ويلقي نظرة على هاتفه الجوال حينا آخر - حتى خلته يشارك مثلنا في المسابقة ويجيب عن الأسئلة -،
ثم حمحم وأشار بيده إلى التلفاز وقال وهو يرمقني بنظرة ثاقبة تخفي غلا وغضبا لم ارهما من قبل عنده بعد أن استجمع قواه و وثق في امكانياته ونفسه :
- ألا تر أنكم تعصون الله وتأتون إثما كبيرا؟
- (أنا غاضبا بصوت عال) ويحك، ما الذي تقوله؟ ما الذنب الذي نقترفه أيها "المصلح" و"الشيخ"؟
- (خطيب أختي مستهزئا وبثقة في النفس) لست مصلحا ولا شيخا أيها الكريم، لكني أعبر عما أعلم وانصح عساني أرجعكم إلى الجادة
- (أنا ساخرا) كيف ذلك أيها النسيب الفريد من نوعه؟
- (ضاحكا ضحكة سخرية وهو يمسح عرقه قبل أن استرد أنفاسه واعتدل في جلسته) يدفع المتسابق ثمن الإرسالية التي عادة ما تكون باهظة الثمن عكس الإرسالية العادية طمعا في الفوز بجائزة عالية الثمن في المقابل، وقد يفوز ويخسر في أغلب الأحيان بما أن الفائز واحد في أغلب الأحيان والمشاركون بالآلاف أو الملايين في كل مسابقة، وهذا الفعل هو الميسر بعينه الذي قال فيه الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" - المائدة 90-، و قال الماوردي رحمه الله عن الميسر : "هو الذي لا يخلو الداخل فيه من أن يكون غانماً إن أَخَذ، أو غارماً إن أَعْطَى" - الحاوي الكبير" (15/192) -. وهذا هو الذي يحدث في كثير من هذه المسابقات، فإن المتصل إما أن يخسر قيمة الاتصال التي غالبا ما تكون أكثر من قيمة الاتصال المعتاد، وإما أن يأخذ أكثر منها في حالة فوزه بالجائزة ...
وواصلنا الحديث من هنا وهناك وهو يحاول اقناعنا بالإقلاع عن هذا الصنيع المنافي للدين الإسلامي الذي يحث على العمل والربح الحلال المتأتي من الكد والجد ومخافة الله وعباده وتعاليم قرآنه وما احتوي عليه من قوانين وقواعد لا يمكن للمسلم أن يحيد عنها أو أن يعصيها لأي سبب من الأسباب وغيرها ويلح في ذلك مستشهدا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وآراء الشيوخ وعلماء المسلمين وغيرهم وآخرها قوله "اشتدي أزمة تنفرجي ،قد أذن ليلك بالبلج... " (قصيدة إبن النحوي) ، ونحن نستبسل ونحاول الدفاع عن أنفسنا وعن نيتنا التي تسعى إلى تحسين وضعيتنا الاقتصادية والاجتماعية وتوديع الفاقة والحاجة من خلال بيع السيارة إن فاز بها أحدنا والانتفاع بثمنها لاحقا، وما إليه من الترهات والتعلات الواهية إلى أن كاد أن ييأس منا وقال بصوت عال "اللهم إني بلغت، فاشهد يا الله أني لم ادخر جهدا من أجل ثنيهم على فعلهم، و فعلت كل ما اقدر عليه وأكثر دون أن أحصل على نتيجة ملموسة ، فأنا أقتنع بأجر واحد يتيم أحسن من سيئاتهم المتعددة"...
ثم نفض أدباشه وهم بالقيام من مجلسه والاستئذان للمغادرة وقد احمر وجهه وفقد كل تركيز وأمان لولا تدخل أختي حينها وقولها له وهي تبتسم في وجهه وتمسكه من يده بكل ثقة في النفس وكلنا يتابع المشهد بانتباه شديد" لقد نجحت في الامتحان يا مهجة القلب وكنت مدافعا شرسا على الدين ومضامينه المقدسة التي لا تحتاج إلى جدال أو تشكيك، فقد اتفقت مع أهلي على هذا الصنيع لأختبر ايمانك وتعلقك بالإسلام ليطمئن قلبي ويتغلغل حبك داخل كل مكوناتي ولا يقتصر على مشاعري وأحاسيسي. أحسنت حبيبي، فقد أمضيت على خلود حبنا الذي باركه ايماننا وورعنا وقربنا من الله ودينه الحنيف، ولا تنس أن القناعة كنز لا يفنى وأن الاكتفاء بالقضاء والقدر وبكل عطاءاتهما هو أساس من أسس الإيمان والسعي نحو كسب حب الله والتقرب منه من خلال محبة الناس وتقديرهم لنا ولمبادئنا وأقوالنا وأفعالنا التي تنم على تشبعنا وارتوائنا من بحار الإسلام ومياهه العذبة التي لا تحصى ولا تعد وهي طريق الجنة إن شاء الله.... ".
ومن تلك الليلة تمتنت علاقتنا ب" عبد الهادي" خطيب أختي" هداية" أكثر فأكثر و ازداد حبنا له واحترامنا لشخصه، فأمسى فردا من أفراد عائلتنا ومرجعا من مراجعها على جميع الأصعدة حتى بعد أن تزوج أختي وجازانا الله من خيراته وأخرجنا من العسر إلى اليسر رجوعا إلى قوله تعالى "فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا "(الشرح 5/6)، وقوله كذلك في سورة الطلاق في الآية الرابعة" ومن يتق الله يجعل له مخرجا" ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق