مجلة ضفاف القلوب الثقافية

الجمعة، 4 أغسطس 2023

من نبض الماضي بقلم عبده داود

 من نبض الماضي

قصة


عادت عمتي وابنتها نيللي من الأرجنتين في أواخر القرن الماضي في زيارة ودية لأخيها، أقصد المرحوم أبي، بعد أكثر من ستين عاما في الغربة.  حينها هاجرت لتتوحد بالزواج مع خطيبها الذي هاجر قبلها... 

نحن أولاد أخيها لم نكن نعرفها، خلقنا بعدما هي هاجرت...مع ذلك قمنا بواجب الضيافة، بأكمل وجه، ولائم، واستقبالات، ونزهات، وكل ما أمكننا فعله لإسعادها واسعاد ابنة عمتي.

الحقيقة هي لم تعرف احداً من أصدقائها القدامى الذين جاؤوا يسلمون عليها، كان بعضهم لا يزال على قيد الحياة، ولم يهاجروا آنذاك كما فعل الكثيرون...

بالفعل، عمتي كانت سعيدة باستعادة تلك الذكريات. التي ذكّرها فيها زملاؤها في ذلك الزمن الماضي...وخاصة أولئك الذين كانت تربطها معهم صداقات ودية... 

ذات مساء، كنا نحتسي القهوة، سألت عمتي كيف ترين النبك بعد غيابك كل تلك السنين الطويلة؟ 

ابتسمت عمتي وقالت لا أدري يا عمتي، بالفعل أنا أقارن الأمر بذهني، أقصد بين هذا الزمان، وذاك الذي لا أزال اذكره...

 كنا سعداء آنذاك، حياتنا كانت بسيطة متواضعة...حينها لم يكن عندنا تلفزيونات، ولا راديوهات، ولا موبيلات ولا غسالات كنا نذهب إلى النهر لنغسل ثيابنا... أصلاً الكهرباء لم تكن قد وصلتنا بعد...كنا نستخدم الكاز للإنارة في الليالي... 

 نبني بيوتنا بأيادينا من اللبن الممانع جداً للبرد والحر، بعكس البلوك الذي أراه اليوم في بيوتكم... كنا نأكل طعامنا من خيرات أرضنا وما تكرمنا به مواسمنا... 

كان همنا في الصيف العمل في الحقول، لتأمين المؤنة الشتوية مثل القمح، والبرغل، والدبس، والجوز وخلاف ذلك. وهمنا الكبير، تأمين الحطب من أجل التدفئة، والتنور.  النبك باردة جدا في الشتاء، في تلك الأيام، لم تكن هناك محروقات متوفرة كما هي اليوم... كنا نجمع الجرزون

( أغصان العنب الطويلة التي يتم تقليمها) بعد كساح جفنات العنب، وتجميع اليابس من شجر المشمش والجوز والحور لنستخدمه في التدفئة والكانونة...

تساءلت مستغرباً: وما هي الكانونة يا عمتي؟ 

ضحكت عمتي ونظرت إلى السماء كأنها تستحضر الماضي، وتنهدت وكأنها تذكرت حدثا مثيراً في حياتها، وقالت: "الكانونة يا عمتي حكاية بحد ذاتها، كانت صديقتنا في ليالي الشتاء الباردة، وملاذنا لتمضية سهراتنا الطويلة... 

الكانونة عبارة عن طاولة غالباً مستديرة الشكل، قطرها يزيد عن المتر، وارتفاعها يزيد عن النصف متر، كانت توضع في منتصف الغرفة، ويوضع المنقل المليء بالجمر المستوي الخامد تحتها. نغطى الطاولة بغطاء كبير يغطي أرجلنا المدودة تحت الطاولة إلى قرب المنقل. ثم نغطي باقي أجسامنا ببطانيات أو كنزات صوفية أو ما شابه... كانت عمتي تحدثنا وتروي قصتها، كأنها تستحضر الماضي البعيد لتجعله حاضراً معاصراً... وبروعة وصفها جعلتنا نعيش معها في الزمن الغابر ولكأنه الحاضر... كانت ابنة عمتي تستمتع بحكاية والدتها ومن الأرجح أنها لا تسمع مثلنا عن الكانونة قبل ذاك الحين... وتتابع عمتي حديثها وتصف لنا مفروشات البيت آنذاك، قالت: كنا نصنع المفارش من أكياس الخيش ونحشيها بالقش نواتج من سنابل القمح المقطعة تحت أسنان النورج  في البيادر، نمد تلك الفرش بجوانب جدران الغرفة، ونضع فوقها مساند مصنوعة بذات الطريقة، ثم نمد عليهما وعلى كامل أرضية الغرفة الحصر، والبسطـ، والسجاد، التي كانوا يصنعونها من مغزول الخيطان الصوفية بعد جز صوف الماعز والخراف آنذاك...

 في السهرات تجتمع العائلة، وغالبا ما يحضرنا زوار من الجيران والأصدقاء من أجل تمضية السهرة، وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما نجلس جميعاً على المفارش ونمدد ارجلنا تحت الطاولة لنستدفئ بحرارة المنقل... غالبا كنا نضع فوق طاولة الكانونة مأكولات السهرية المتوفرة عندنا من زبيب وتين مجفف وجوز ولوز وقضامه صفراء، وقضامه السكر وخلافه... كانت أمتع السهرات، عندما يتواجد بين الموجودين شخص يجيد سرد الحكايات، نسميه الحكواتي... الذي يحكي، ويمثل شخصيات الرواية، ويتحمس الحاضرون في البيت وتصبح آذانهم وعيونهم وكل حواسهم مشدودة مع الراوي... كنا نتحمس مع القصة، ونتفاعل مع الأحداث، نتصور الشخوص والحوادث في مخيلاتنا. وكان الحكواتي الشاطر يزيد ويطيل ويشعب الحوادث إلى أن يقف عن سرد القصة في مكان شيق ويقول سنكمل الحكاية في الغد... وكنا نصيح: أكمل الحكاية يا رجل. وغالبا لا يفعل. وكنا نحن نستعيد أحداث الرواية. منتظرين عودة المساء التالي حتى يأتي الحكواتي ونعود إلى الكانونة وإلى حكايتنا... 

تنهدت عمتي وقالت: وحسرتاه، لقد اضعنا عمرنا في الغربة... 

لا كانونة ولا حكواتي...

بحثنا عن السعادة في البعيد، ونسينا بأن السعادة موجودة هنا بين ناسنا وأهلنا...

بقلمي: عبده داود


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق