مجلة ضفاف القلوب الثقافية

الخميس، 28 سبتمبر 2023

من رواية ملح السراب 1 بقلم مصطفى الحاج حسين

 * من رواية (ملح السّراب) /1/


         (مصطفى الحاج حسين) . 


       تسلّق جدار المدرسة ، قفز إلى باحتها ، ودخل صفّ( سامح )، من النّافذةِ المكسورة وفي الصّفّ كان بمفرده ، شعر بالفرحة تجتاحه ، جلس على المقعد ،واضعاً يديه أمامه ، مستنداً على المسند ، دار على المقاعد ، وجلس الجّلسة ذاتها ، وجد قطعة ( طباشير )  فأسرع نحو السّبورة ، وبدأ يرسم خطوطاً كثيرةً ،خطوطاً لا معنى لها ، فكثيراً ما كان يسأل والديه ، عن سبب حرمانه وشقيقته ( مريم ) من المدرسة ، فتأتيه الأجوبة غير مقنعة . والده يقول :


ـ نحن أسرة فقيرة ، والمدرسة مكلفة ، وأنا كما تراني .. عاجز عن إشباع بطونكم .


ـ وكيف أدخل عمّي ( قدور ) أولاده إلى المدرسة ، وهو فقير مثلك ؟!.


ـ عمّك لا يعرف عواقب الأمور ، غداً ترى ، سوف يضطرّ إلى سحبهم ، حين يعجز عن دفع النفقات .


               ويتابع الأب كلامه ، كأنه يزفّ إليه بشرى :


ـ غداً سأبعث بكَ إلى الشّيخ (حمزة)

ليحفّظكَ القرآن الكريم .. وهذا خير بألف مرّة من المدرسة .


         وتحاول أمّه جاهدة ، أن تقنعه لتخفّف عنه حزنه :


ـ حفظ القرآن عند الشّيخ ( حمزة ) ، سينفعك في الدّنيا والآخرة ، أمّا المدرسة فلا تعلّمكَ إلّا كلمتي بابا وماما .


        ومن شدّة تلهفه وإلحاحه ، فقد تقرّر أخيراً ، ذهابه لعند الشّيخ ، ولقد اجبر أمّه ، على خياطة صدّارة ، تشبه صدّارة سامح  ، وعطفاً على بكائه المرّ ، اشترى له أبوه محفظة جلدية ، ودفتراً صغيراً مثل سامح .


      بات ليلته وهو في غاية السّعادة

 لم يغمض له جفن ، كان يتحسّس صدّارته التي ارتداها ، ومحفظته بمحتوياتها التي تشاركه الاستلقاء في فراشه القطني . أمّا أحلام اليقظة ، فقد بلغت أوجها في مخيّلته ، الواسعة الخصوبة :


ـ  سأتعلم .. مثل (سامح) ، سأتحدّاه

 .. وأكتب على الجّدران اسمي ، واسم ( مريم وسميرة ) وسأكتب بابا وماما ودادا ، وسأحفظ الأرقام .. وأنا في الأصل.أعرف كتابة الرقم واحد ، تعلمته من ( سامح ) ، كلّ ما عليّ أن أمسك بالقلم ، وأضغط بالقوة ، راسماً خطاً من الأعلى إلى الأسفل ، وسأرسم قطتي أيضاً ، ودجاجات جارتنا ، وحمار خالي ، وسيّارة رئيس المخفر ، التي يخافها الجّميع .. والطّائرة التي تطير كلّ يوم من فوق دارنا .. سأرسم كلّ شيء يخطر لي ، القمر ، الشّمس ، النّجوم ، والعصافير ، والكلاب ، الأشجار العالية ..نعم سأفعل كلّ هذا ، لأنّ ( سامح ) ليس أفضل منّي .. فأنا أطول قامة ، وأقوى منه ، عندما نتعارك . 


        وشعّت ابتسامته في الظّلام ، تقلّب في فراشه .. متى سيأتي الصّباح ؟.. هكذا كان يتساءل .. ثمّ أرسل نظرة إلى ( مريم ) النائمة ، وتحسّر من أجلها ، لقد بكت طويلاً ، لأنّ والدها لم يشترِ لها صدّارة ومحفظة، وحسدَ نفسهُ لأنَّه ذكر ، فقد قال لها أبوها ، بعد أن ضربها :


ـ يامقصوفة الرقبة أنتِ  بنت .. ما شأنكِ بالمدرسة ؟!.


       سأطلب من شيخي أن يعطيني

 كتباً كثيرة ، أكثر من كتب ( سامح وسميرة ) ، سأقوم بتجليدها ، ولن أسمح لأحد أن يلمسها ، سوى أختي ( مريم ) ف( سامح وسميرة  )  لا يسمحان لنا بلمس كتبهما .. في كلّ يومٍ سأنال من شيخي علامة الجيد ، ولن أكون كسولاً مثل ( سميرة ) ، وفي آخر السّنة سأنجح بتفوقٍ ، وسأوزّع السّكاكر على كلّ اهل الحارة ، ولن أطعم وَلَدَي عمّي ، إلّا سكّرة واحدة لكلٍّ منهما ، مثلما فَعَلَا معي ، يوم نجح إلى الصّف الثاني ، لا فرق بيني وبين ( سامح ) سوى أنّه ينادي معلمه ( أستاذ ) وأنا أناديه ،.كما أوصاني أبي ، سيدي الشيخ .


            في الصّباح الباكر ، وعلى صياح الدِّيَكَة ، قفز ليوقظ أمّه ، وبسرعة غسّل وجهه ويديه ، سرّح شعره الخرنوبي ، حمل حقيبته الزّرقاء ، وانطلق رافضاً تناول

الزعتر والشّاي .


      دفع للشيخ ذي اللحية الغزيرة ، المضاربة للبياض ، ربع ليرة أجرة الأسبوع سلفاً ، وجلسَ على الحصيرةِ المهترئة ، بين كومة الأولاد ، المتجمّدينَ أمام أنظار الشّيخ المسنّ ، وماكاد يستقرّ في مكانهِ ، حتّى أمره الشّيخ بالوقوف ، تأمّله بعينيه الحمراوين ، فارتعش الفتى ، لكنّ الشّيخ لم يشفق عليه ، بل صرخ :


- ما هذا الذي تلبسه ؟.. صدّارة !!.. ما شاء الله ، هل قالوا لكَ إنّ عندي مدرسة ؟!.


        انهارت أحلامه ، لم يكن يتوقّع مثل هذه المعاملة ، من الشّيخ ، أراد أن يسأله عن رفضه الصدّارة والحقيبة ، غير أنّ الخوف عقل لسانه ، فجلس دامع العينين .


       ما أسرع ما ينهال الشّيخ ، على الأطفال بعصاه الغليظة ، وما أكثر ما يغضب ويثور ويحملق بعينيه المرعبتين ، وخلال أيّام قليلة تعرّض ( رضوان)  إلى عدّة ( فلقات ) منه .


        وذات يوم .. ضبطه الشّيخ وهو يقتل ذبابة بيده ، فانهال عليه ضرباً ، غير عابئ بصرخاته ودموعه

وأخيراً أصدر أمره الحازم :


ـ التقط الذّبابة .. وضعها في فمكَ .. وابتلعها .


        لم يخطر في باله مثل هذا الأمر ، بكى .. توسّلَ .. ترجّى .. تضرّع .. سَجَدَ على قدمَي الشّيخ يقبلهما ، استحلفه بالله وبالرسول ، فلم يقبل .. تناول الذبابة .. ووضعها في فمه ، فوجد نفسه يتقيّأ فوق الحصيرة ، وضجّ الأولاد بالضحك ، بينما جنّ جنون الشّيخ ، فأخذ يضربه ، ويركله،كيفما اتفق ، وبعد أن هدأت ثورته ، واستطاع أن يلتقط انفاسه بانتظام ، أمره أن يغسل الحصيرة والأرض . ولمّا كان صنبور الماء قريباً من الباب ، أسرع وفتحه وأطلق العنان لقدميه المتورمتين..


فأرسل.الشّيخ على الفور ، من يطارده من الأولاد .. ولكن هيهات أن يلحق به أحد .


        في المساء .. عاد والده من عمله ، تعشّى مع أسرته ثمّ أخبرته زوجته ، بأمر هرب ( رضوان )من عند الشيخ فغضب الأب وصفع ابنه ، وأمره أن يذهب معه ، في الصّباح

 لعند الشّيخ ، ليعتذر منه ، ويقبّل يده الطّاهرة .


ـ الولد ابنك .. لكَ لحمهِ ولنا عظمه .

قال الأب للشيخ .


ـ لا عليكَ يا أبا ( رضوان ) . الولد امانة في رقبتي .


  قال الشّيخ مكشراً عن اسنانه المنخورة .


             في ذلك اليوم ، لم يضربه الشّيخ ، واكتفى بتحذيره، أنذره من الشّيطان الذي بداخله .


      وبعد أيام وقع (رضوان)  في ورطة جديدة ، وكان الوقت ظهراً ، وكان الأولاد محشورينَ مثل السُّجناء ، في غرفة صغيرة ، لا نافذة لها ، كانوا يتصبّبونَ عرقاً ، شعر الطّفل برغبةٍ لا تقاوم في النّوم ، رغبة اشدّ من قسوةِ الشّيخ ، ولا يدري كيفَ سها ، وعلى حين غرّة جاءته ضربة قوية على باطنِ قدمهِ ، فانتبه مذعوراً ، وقبل أن يسبقه

بكاؤه ، تبوّل في مكانه .. بلّل ثيابه والحصيرة ، وتعالت الضّحكات من رفاقه ، وفقد الشّيخ رشده ، فلم يجد ( رضوان ) وسيلة للتخلص سوى بالبكاء ، بكى كثيراً ،حتى رأف الشّيخ بحاله ، وسمح له بالإنصراف .


        منذ ذلك اليوم ، أطلق عليه الأولاد ، لقب( الشخاخ) من أجل هذا ، أخذ يجامل الأولاد ، ويكسب ودهم ، ولكنهم كانوا أوغاداً ، ازدادوا استهتاراً به ، وبمحاولاته لكسب صداقتهم ، وكان الجميع يتشجّعون وينادونه ( الشخاخ ) ، إلى أن جاء يوم من أيام الشتاء ، عجز فيه والده ، عن دفع ربع الليرة ، فطرده الشّيخ ، وكان سعيداً لأنه أصبح حرّاً .. بعيداً عن الشيخ والأولاد .


           وجلس ( رضوان )  يترقّب موعد طرد ( سامح وسميرة ) من المدرسة ، لكنّ عمه لم يعجز حتّى الآن ، عن دفع النفقات ، كما كان يتوقّع والده ، وذلك أمر كان يحزّ في.قلبه .


        صار يتسلق جدران المدرسة ، ليراقب ( سامحاً ) الذي يلعب في الباحة ، مع رفاقه أثناء الفرصة ، صار همّه الوحيد المراقبة والانتظار ، لحين انصراف ( سامح ) . وكم كان يلذّ له أن يأخذ الحقيبة من سامح ليحملها عنه ، متخيّلاً نفسه تلميذاً ، وفي تلك الأيام ، كان كثيراً ما يمرّ بالقرب من أحد المعلّمينَ ، ليرمي عليه السلام ، وكم كان يشعر بالغبطة ، حين يردّ عليه ، ظانّاً أنّه أحد تلامذته .


         وما كان يضايقه .. سوى الآذن ( أبي لطّوف ) ، الذي يهرع ليلاحقه بدرّاجته ، كل ّما رآه متسلّقاً على الجدار ، وكم كان يتهدّده بأنّه سيعيده إلى بطن أمّه إن.أمسكه .. وفي إحدى المرّات ، استطاع الإمساك به ، كان قد تسلّق الجدار ، وجلس يطوّح بقدميه ، ينظر إلى التلاميذ ، وبينهم( سامح ) وهم ينفّذون درس الرياضة كان يراقبهم بشغف ، وهم يركضون خلف الكرة، وكانت الغيرة تأكل قلبه الصغير .. وفجأة أمسك ( أبو لطّوف ) بقدمه .. وأخذ يشدّها بقوة ، و ( رضوان ) الذي صعقته المفاجأة ، يصرخ.. وهو يحاول التملّص ، غير أنّ (  أبا لطّوف ) تغلّب على الصغير ، فارتمى بين ساعديه ، حيث قاده إلى غرفة المدير ، غير منتبه إلى تبوّل الطفل في ثيابه .


           كان المدير بديناً وأعورَ ، صارماً أشدَّ قسوةً من الشّيخ

( حمزة ) ، أمره بالجلوس على الكرسي ، وأمسك الآذن به ، ورفع له قدميه ، وانهال المدير عليه ضرباً بلا رحمة ، ولم يتركه إلّا بعد أن أقسم الطفل، آلاف المرّات ، بأنّه لن يعود إلى تسلّق الجدار ، حمل حذاءه وخرج على رؤوس أصابعه ،

ينتحب بغزارة وحرقة ، في حين  كانت(  كلابيّته )  تقطر بولاً .


        منذ ذلك اليوم ، أقلع ( رضوان )عن تسلّق الجّدار ، صار يكتفي بالدَّوَران حول سور المدرسة ، ينتظر ( سامحاً ) ، وكان يصيخ السّمع ، إلى صوت المعلم ، المتسرّب من النّافذة ، وهو يهتف :


ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .

فيردّد التلاميذ خلفه :


ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .


        وكان يتناهى إلى سمعه ، صوت ( سامح ) من بين الأصوات ، أو هكذا كان يتخيّل ، فيشعر بالحسد،ويتمنى ذلك اليوم الذي

 سيعجز عمّه ( قدّور ) عن دفع النفقات في تلك اللحظة فقط ، سوف يسخر من ( سامح ) ، لأنّ هذا لن يكون متميّزاً عنه بشيء ، بل على العكس :


ـ ( فأنا أطول منه قامةً .. وأشدّ قوةً .. واسرع ركضاً .. وكذلك أنا أمهر منه في قذف الحجارة ، ولا أخاف الاقتراب ، من الحمير والكلاب  . ) .


             في أحد الأيام ، سقط العمُّ ( قدّور ) عن( السّقالة )، في أثناء عمله في البناء ، وانكسرت رجله ، فاستبشر خيراً ، ولكن زوجة عمّه ، سرعان ما خيّبت رجاء ( رضوان ) إذ باعت قرطها وخاتمها الذهبيّين ، حتى تتمكَّن الأسرة من متابعة العيش ، وكم كره زوجة عمّه هذه .. بل إنّه يكرهها من قبل ، لقد رضع كرهها من أمّه ، التي تطلق عليها .. لقب ( أمُّ عُصٍّ ) لأنّها نحيلةً جدّاً ، في حين كانت أمّه ضخمة جداً .. وهكذا توالت الأيّام ، وهو يمضي نهاره ، حول سور المدرسة ، في انتظار ( سامح ) إلى أن جاءت العطلة الصّيفية ...


         فينتهزَ الفرصة ، ويقتحم صفّ ( سامح ) ، ويرسم على السّبّورة خطوطاً كثيرة ، حتّى انتابته حالة انفعالية غريبة .. فأخذ يكسّر المقاعد والنوافذ .. ولم يخرج من الصّف ، إلّا بعد     أن رفعَ ( كلّابيَّتهُ ) ، وتبوّل فوقَ طاولة المعلّم .. وأمامَ السّبّورَة .


          مصطفى الحاج حسين

                       حلب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق