مجلة ضفاف القلوب الثقافية

الجمعة، 1 مارس 2024

قصة قصيرة الماعـز المتيم بقلم عبد الكريم علمي

قصة قصيرة: الماعـز المتيم.

يُحكى أن تيسا من قبيلة العنز، أحَبّ واحدة من قبيلة أبناء آوى، أُغرم بها وهام فيها، وعشقها عشقا جُنونيا، مما جعله يُهمل زوجته العنزة، ولا يُراعي شؤونها، ولا يُؤدي حقوقها، فكلما رأى بنت آوى تلك، حتى يأخذه السرور والزهو والعُجْب، ويبدأ بالصياح والقفز أمامها، مُعبرا لها عن أشواقه وحبه، لكن بنت آوى تلك كانت تكره الماعـز ولا تُطيق صياحه، وكانت تجاريه في تصرفاته، وأوهمته بالحب، وكانت تتظاهر أمامه بالعفة والأخلاق، وتُزيّن نفسها عند الالتقاء به، مما جعله يهيم فيها وينسى نفسه، ثم إن بنت آوى اتفقت مع شقيقاتها من أجل استغلال نقطة ضعف الماعز وحبه الغريب والشاذ، لقد واعدت بنت آوى الماعز في مكان منعزل وبعيدا عن الأعين.

ولما ذهب إليها في المكان المتفق عليه، اصطنعت له ابتسامة وشوقا، وكانت تُسبل عينيها ثم ترفعهما إلى الحبيب المغفل، وقالت له: أهلا بك يا حبيبي الذي اخترته من بين جميع الحيوانات، إن قلبي ليذوب ويخفق عند رؤيتك، وعند سماع أغانيك العذبة التي تتغزل فيها بي، وإنني متشوقة دائما لرؤيتك، والوُدّ وُدِّي في أن لا تُفارقني أبدا، وأن نبقى سويا مدى الحياة، إني وهبتك نفسي وكل ما أملك، فأنت عقلي الذي به أميز، وأنت قلبي الذي يضخ الدم في عروقي، وأنت بصري الذي به أبصر، وأنت روحي التي بها أحيا، وأنت عمري كله، يا حبيبا ما رأيت مثله، ويا حبيبا أحسد نفسي عليه، وأغار عليه حتى من النسيم الذي يلمس جسده الملائكي الطاهر الجميل.  

لقد تسمَّر الماعز عند سماع هذه الكلمات، التي لم يسمعها من قبل قط، ولم يسمعها حتى من زوجته العنزة أم جديانه، التي كثيرا ما كانت تتهمه بقليل الذوق في اختيار الأغاني التي يرددها عند أذنيها صباح مساء، والتي كثيرا ما كان يتهمها هو الآخر بعديمة الذوق والإحساس، وذاب قلبه واعْتُصر أمام بنت آوى، وقال لها: بالله الذي لا إله إلا هو، إن زوجتي العنزة القذرة طالق بالثلاث، وبالثلاثين، وبالألفين، وبالمليونين، وبالبليونين، فقبحها الله من سوداء ذميمة لا تُحسن شيئا، فكل ما تُحسنه هو كثرة التشكي والتجني عليّ باتهامي بإهمالها، وعدم مُراعاة أمورها، حتى حوَّلت حياتي نكدا في نكد، وجحيما لا يُطاق، كل همها وهمتها في أن أدخل عليها كل ساعة بالتبن والشعير، لتملأ جوفها الذي لم يمتلئ يوما من الأيام، ولن يمتلئ في قابلها، كلما آتيها تقول: أين التبن؟ أين الشعير؟ أين الحشيش؟ أين؟... أين؟... كل كلامها سؤال عن الأكل، هذا هو كلامها إن نطقت، ولا تُحسن قول شيء آخر، فهي لا تعرف في الحياة إلا الأكل والشرب والنوم. يا حبيبتي يا بُنيّة آوى، إن القلب ليخفق، وإن جوانبي لتضطرب، وإن عقلي مُشتت، وإن وجداني وأحاسيسي وأشواقي وعواطفي صارت وديانا تصب في بحر حبك اللامتناهي، يا حبيبة ما بعدها حبيبة، ويا حبيبة بعد حبك لا يكون إلا موتي.  

فابتسمت بنت آوى وقالت في سرها: أجل أيها الأبله، بعد حبي لا يكون إلا موتك، يبدو أن حبي أفقدك رشدك وصوابك، وما عدت تدري ما أصابك، هذا كله من الافتتان الذي صيَّرَكَ إلى البلاهة والهذيان، نعم لقد أصابك حبي بالخبال، فصرت تهذر وتهذي وتنطق بالمحال، وتجهل العاقبة والمآل، وما دريت أن عاقبة حـب بـنـت آوى هي الـمـوت والـزوال، هاهاها...، الـزوال طـبـعـا في بـطـون بـنـات آوى، هاهاها...، فقبحك الله أنت أيضا من أسود ذميم، مغفل وطائش، فما أقذرك وما أنتن رائحتك أيها الأبله الثرثار، ثم مخاطبة الماعز: هل تعلم يا حبيبي يا ماعزي الحنون، أنني أحببتك من صميم معدتي وأحشائي؟

الماعز(مندهشا ومتعجبا ومستفسرا): ولكن الحب في القلب يا حبيبتي وليس في المعدة والأحشاء، فمالذي نقله من قلبك إلى معدتك وأحشائك؟ هذا أمر غريب، وحبك فيه عجب عُجاب؟! وهو حب شاذ لم أسمع بمثله قط! 
بنت آوى(مستدركة ومواربة): إنه لما امتلأ قلبي من حبك الكبير، ولما لم يبق في قلبي متسع لإيواء حبك العملاق واحتوائه، فإنه أصاب معدتي وأحشائي، وإنني لا آمن أن يُصيب عقلي أيضا. 
ثم مكملة في سرها: نعم إن لم أفترسك يا قذر سأصاب بالجنون حتما، لأنه ما حدث أن ضاعت مني فريسة قط، وإن ضعت مني أنت بعد كل هذا التعب، فإنني سأجن بالتأكيد، ثم إنني سأجن من صياحك القبيح هذا، الذي يبعث على التقزز والنفور والاشمئزاز، والذي ما إن أسمعه حتى يُخيّل إليَّ أن منيتي قد حانت. 

الماعز( وقد ذاب عشقا لسماعه تلك الكلمات): آهٍ يا حبيبتي كم أنا سعيد ومسرور، أحس كأن هذه الدنيا خُلقت لأجلنا نحن الاثنين فقط، لقد ملأ عليّ حبك كل شيء، فأنت الماء والهواء والأهل والأخلاء، وأنت المنهل والسكن والوطن، وأنت الروح في الجسد، وأنت الدم، وأنت القلب، وأنت كل شيء في كل شيء، يا كل شيء. 
بنت آوى(مبتسمة وتقول في سرها): حتى العنز صاروا فلاسفة، لقد ألهمك حبي فعلا الثرثرة في الكلام أيها القذر، إنه عليّ أن أنهي الأمر سريعا لأني ما عدت أتحمل بلاهاتك، ولا منظرك القبيح الذي يوحي بمظهر إبليس في أبشع صوره الخسيسة، سوف تعلم بعد حين أن حبي تسيل له الدماء يا حبيبي التيس الهائم الولهان، وساعتها سوف تُشفى من حُبي وإلى الأبد، وأشفى أنا أيضا من حبك وإلى الأبد يا حبيبي المغفل.    
ثم قالت مخاطبة إياه: حبيبي يا ماعزي الحنون الطيب، أُدنُ مني ومُدّ رقبتك، وأغمض عينيك، لأرسم قبلة على شفتيك، تلك الشفتان الأحلى والأجمل من شقائق النعمان في شهر نيسان، لأخفف بها قليلا من هذا العناء الكبير، الذي أصاب قلبي من حبك العظيم الذي يُفتته، ويقض مضجعي.  

فمد الماعز رقبته وأغمض عينيه ومدّ شاربيه، فانقضت عليه بنت آوى بكل ما أوتيت من قوة الشراسة والعنف ماسكة برقبته، فسقط الماعز وهو يتخبط في الدماء مُحاولا عبثا الخلاص والفكاك والنجاة بالروح، لكن شقيقات بنت آوى كُنّ قد خرجن من مخابئهن، وتعاوَنّ جميعا على افتراس الماعز.

فكن يأكلن، وقالت صاحبته: هذا جزاء من يمد رقبته ويغمض عينيه، إن من يمد رقبته ويغمض عينيه، تفترسه بنات آوى و لا تُبقي عليه.
وقالت إحداهن: ما أقذر ريحه ومظهره. وقالت أخرى: بل وما أقذر لسانه وهو يتكلم في الحب. وقالت التي أوهمته بالحب وخدعته وغدرت به: يا أخواتي، إن كل تلك القذارات تهون أمام طعم لحمه اللذيذ الشهي، ثم إن من يُنشد السعادة عند بنات آوى، وعند الثعلبات والذئبات، سينالها ويظفر بها، ولكن بعد الممات، هاهاها... .
الأخوات: هاهاها...، صدقت وما نطقت إلا الصواب يا أختنا الغالية الجميلة، هاهاها... .

وهكذا مات الماعز وضاعت حياته هباءً منثورا، لحماقته وجهله وتخلفه وتهوره وطيشه، ووقوعه في الحب المستحيل مع مفترسة من غير جنسه، فأصبحت عنزته أرملة وجديانه يتامى، وصار العنز الذكر يزعجون العنزة الأرملة بصياحهم عند رأسها صباح مساء، وهي لم تتحمل يوما صياح زوجها المزعج لوحده، فأنَّى لها أن تتحمل صياح هؤلاء مُجتمعين؟ وهي الآن وحيدة وضعيفة ولا أحد يُدافع عنها.

                      بقلم: عبد الكريم علمي
                      الجمهورية الجزائرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق