مجلة ضفاف القلوب الثقافية

الخميس، 23 مايو 2024

حكاوي القهاوي بقلم علوي القاضي

حكاوي القهاوي ٠ (2)
... ليلة رمضانية في ( قهوة الفيشاوي 1990)
يسهر فيها معكم : د/علوي القاضي. 
... ( القهوة عالم بحاله قايم ، فيه اللي قاعد جنب اللي هايم ، وفيه تلاهي ، وفيه عبر ، وفيه تلاقي كل البشر ، وإن كنت ناوي ، وإن كنت غاوي ، تشوف وتسمع ع القهاوي ، قرب ، وجرب ، ولوحكاية من حكاوي القهاوي ) 
... كلمات لاتنسى لبرنامج ( حكاوي القهاوي ) ، مازال رنينها يتردد في أذني ، تلك الكلمات التي يعقبها التتر المميز ، الذي كان يذاع في شهر رمضان أول التسعينات ويذكرنا بأيام الدفء والسكينة 
... والمقاهي تعتبر صروح أدبية وثقافية ومنتديات متعددة الأنشطة للمرتادين  
... هذا البرنامج الجماهيري ( حكاوي القهاوي ) ومقدمته الشيقة ، كان جمهوره المصري والعربي ينتظره طوال شهر رمضان على شاشة التليفزيون المصري ، لأنه كان واقعيا ، ويعبر عنه ، ويعرض شخصيات متواضعة وبسيطة من الشارع المصري ، لتكون أبطال للبرنامج بدلا من نجوم الفن والكرة والمشاهير
... كانت المذيعة تطوف القرى والنجوع والشوارع ، وتجلس على المقاهي الشعبية ، تحاور أصحاب المهن والحرف ، لذلك فقد استولى البرنامج على وجدان الشعوب ، وفي كل حلقة بطل جديد من ( السمكري ) مرورا بـ ( بائع البطاطا ) إلي ( سائق الحنطور ) ، وكانت تتجول في الشوارع وسط المهمشين والرعاع والسوقة والدهماء وأصحاب الحرف والبسطاء ، ربما وجدت الأجمل والأوسع في قلوب هؤلاء الغلابة 
... وبات البرنامج هو الأشهر ، والأقرب لقلوب الملايين ، والمذيعة التي تركت أرستقراطيتها واقتربت من الطبقات الشعبية ، حتى بزيها الشعبي ، وفيه تتعرف من المهنيين على تاريخ وأصل كل مهنة ، ومازال صوت المذيعة في نهاية البرنامج يعيش بينا 
... وهذا النجاح جعل من القهوة مركز ثقافي سياحى درامي ، ماشجعنى أن ارتادها ، فقد كنت أرتاد المقهى الأشهر في مصر ، وهو ( قهوة الفيشاوي ) في شهر رمضان
... ومقهى ( الفيشاوي ) هذا عمره يزيد عن 100 عام ، وكان للمكان واجهة أنيقة ودهليز طويل حوله مقاصير صغيرة وموائد رخامية ومقاعد خشبية ، واُشتهر المكان ب ( الشاي الأخضر والأحمر ) ، ويُقبِل كثير من رواده إليه في شهر رمضان ، وكان يتميز بالهدوء والتحف العربية داخله ، التي تصنع طابعًا مميزًا ، أما صاحب المقهى ( الفيشاوي ) يدخن الشيشة خارج المقهى ، وأمامه خيله العربي الأصيل ، وكان الأديب نجيب محفوظ ، الذي عشق المكان ، يمر بالمقهى يوميا ، أثناء عمله بوزارة الأوقاف فقد كان يعتبره مكانًا هادئا يعبق بالتاريخ  
... بالرغم من وجود قهاوي شهيرة فى القاهرة مثل قهوة ( أم كلثوم ) ، فقد كان لكل منها مريدون من نوع خاص فقهوة ( أم كلثوم ) ، كان يرتادها محبى وعشاق أغانى أم كلثوم  
... ولكن كان ل ( قهوة الفيشاوي ) طابع خاص ومريدين معينين ، فهي تاريخ للقاء الفن والأدب ، في مكان سطر بالحكايا ، والقصص الجميلة ، مع كل كوب من الشاي أوفنجان من القهوة ، حدث ينسج حكاوي لمسلسل الحكايات والروايات الممتعة والشخصيات التي تركت بصمتها على جدار تاريخ تلك القهاوي ، وهذا المقهى كان ملهما لنجيب محفوظ لكتابة ثلاثيته الشهيرة ( بين القصرين ، وقصر الشوق ، والسكرية )
... ‏في قهوة ( الفيشاوي ) بالحسين ، كتب نجيب محفوظ روائعه الأدبية ، وفيها جلس الأدباء والشعراء والفنانون وأبناء الوطن والسائحون من كل أرجاء العالم ، مع أكواب الشاي الساخن بأوراق النعناع الأخضر ، ففيها تجد القاهرة التاريخية ، وفيها تجد مصر ساحرة القلوب
... في مقهى ( الفيشاوي ) ، كل شيء متاح ، الوقت ، والكلام ، والضحك ، حتى الإستمتاع ، تستطيع أن تدفع ثمن كوب من الشاي وتجلس ، فتأتي الحياة إلى مائدتك دون بحث أوعناء ، تأتي إليك ( آخر الأخبار ، وآخر الإشاعات ، وآخر النكات ) ، ويسعى إليك رجل ليمسح حذاءك ، ورجل آخر ليقرأ عليك موعظة ، وآخر يسحب نسناسا يرحب بك ، وآخر يبتلع منشاراً ، وٱخر يحملك أنت وكرسيك على جبهته ، والكل يقول إنه فنان ، وعلى الرصيف المقابل بين ، كيزان الحِلبة ، وقراطيس الترمس ، والطراطير ، وباعة الكشري تجد نفسك جزءاً من ( سينما سكوب ) شعبي يتغير أمامك بإستمرار طالما أطلت الجلوس 
... ومما أدهشني في تلك الليلة ، أن الجرسون يعبر بين الكراسي ، وهو يحمل على ذراعه ثلاث طلبات وشيشة وطاولة وطقطوقة ويترنح ذهابا وإيابا ، ويناديه أحد الجالسين ( ياسي عجورة النار خسعة ) وهو يصيح ويرد ( أيوة المضبوط معايا ، أهوه ) 
... وفي الترابيزة المجاورة لي ، يجلس المحامي الشرعي ، ولايبدو منه إلاقفاه وقبضة يده وهي تروح وتجيء ، في حلقات من الدخان ، صائحا وكله ثقة ( القضية في إيدي اليمين ، النفقة ، والمقدم ، والمؤخر ، والبهدلة كمان ، كله على الله وعليَّ ) ، هي دي أول قضية واللا آخر قضية يابو سليمان ؟! ، وشلبي أفندي صاحب المونوكل والبابيون والمنشة يجلس متابعا للأحداث وبجوار باب القهوة يجلس المصور على كرسيه معلقا خلفية قماشه سوداء يجلس الزبون أمامها لالتقاط عدة صور ابيض واسود للذكرى
... ويشق الطريق بائع الحمص يجر عربته اليد مغنيا ( اللى شاف حمص ولاكالش حب واتلوع ولاطالش ) وترد عليه احداهن ( يسترك هات حبه بقرش )
... وفي المحل المقابل يظهر ( مكوجي الرِجل ) ، بدِكة سرواله التي تتدلى على الأرض ، و ( العمدة ) الذي جاء من كفر المعزة للتبرك بسيدنا الحسين والتمسح بمقامه والتمرغ في ترابه ، والدعاء لابنته أن يرزقها الله بابن الحلال ، و ( السمسار ) واضعا بجواره لافتة مكتوب عليها ( سمسار الحبايب . تمليك . ايجار . مفروش ) ، وبائع القلل يفترش الأرض ويعرض منها القناوي ومنها الحمراء البلدى ، وينفخ فيها ليختبرها ، و ( النشال ) الذي يراقب الضحية حتى إذا دخل وسط الزحام ، إفتعل شجارا مع زميله وخلالها تتم السرقة ، و ( مدرس الخط ) الذي يحمل أدواته من الأحبار الملونة وأقلامه ( البسط ) وينتظر الفرج ، و ( محصل الضرائب ) الذي يأخذ قسطا من الراحة على القهوة ثم يغادر لإستكمال التحصيل من المحلات ، و ( قارئ العدادات ) الذي يسجل القراءات بالدفتر دون فحص العدادات ، و ( المأذون ) لإستكمال إجراءات الزواج لمريدي سيدنا الحسين و ( الشمَّاس ) ، و ( العرضحالجي ) بملفاته المملوءة بطلبات عرض الحال المدموغة ، وقلمه الكوبيا ، وريشته ومحبرته ، وزيادة على ذلك أكثر من ( مائة إنسان ) ، منكفئون على الموائد يلعبون ( النرد أو الكوتشينة أو الدومينو ) ، وأحيانا يتهامسون ، وأخرى يتشاجرون ، ويعلو شجارهم فنسمع بين قرقعة الدُش والدَبَش كلماتهم المبحوحة 
... كلمات ، حينما أنصت إليها تحكي قصة ( عم زكي ) المثيرة للجدل ، التي يشكو فيها همه مع طليقته ( فطومة ) لصديقه ( دي معاملة ياراجل ، ده كلام تقوله ، أرُدَّها ، أردها ازاي ، والشنب ده كله يروح فين ، دنا أقطع الدراع اللي تتمد لها ! ، دي واحدة مايتمرش فيها العِشرة والمعروف ، خمس سنين ، وأنا شايلها في عينيه ، هات يازكي ، روح يازكي ، إقبض يازكي ، إدفع يازكي لما داخ زكي وغلب ، وآخر المواخر تعمل فيَّ كده ، وعاوزني أردها ، أردها ازاي ! ده الطلاق فيها شوية ، دي عاوزة الدبح ، الدبح والكعبة الشريفة ياشيخ ، وحق مقام سيدنا الحسين الطاهر ، وحياتك يادى النعمة ( ممسكا كوب الشاي ) وإلٱهي دمي يسيح ميه زيها ، إني بِعت أهلي على الولية دي ، وخربت بيتي وشردت عيالي ، بلاش تعاملني أنا ، عامل ربنا ، عامل ضميرك ، وخليك حاكم عادل ، يرضيك خرابي ، يرضيكوا إنتوا ياناس ( ملوحا للجالسين ) ، دنا زكي ، زكي أبوالدهب ، اللهم طولك ياروح ، زكي يطاطي لولية قليلة الأصل ، ويرجع في كلامه ، طب والله لأنا رايح مخلص على الولية دي عشان ترتاحوا ، أوعوا بقه ، أوعوا سيبوني ، أوعوا ياناس ، أوعوا ياخلق ، ويلتف الناس حوله وتتشابك حلقة الناس حول الزوج المهتاج ، فيجلس وهو يسب ويلعن ، ثم تعود الضجة من جديد مع أصوات زهر النرد أو أصوات ورق الكوتشينة أوتغرق في قرقعة أوراق الدومينو الدِش والدبَش من جديد 
... وبعد قليل يتسلل إلى المقهى ( بائع الكتب ) ، رجل ضامر هزيل يبيع الكتب ، وينادي عليها بصوت رفيع مخنوق ( إبتهالات ، أوراد ، إستخارات ، تفسير أحلام ، خطب منبرية ، أحاديث محمدية ، تفاسير ) ويدور في المقهى مرتين ، ثم يتوقف عند جماعة من إخواننا الأقباط ويهمس ( قصص الآباء اليسوعيين ، أقانيم حنا وبولس ، وصايا القمص جورجيوس ، كلمات بطرس الناسك ) ، ثم يختفي في الزحام ، ويعود للظهور ليدس في يد كل واحد إعلاناً ويوشوش في أذنه ( كتاب غرامي ، إجتماعي ، تناسلي ، قصة امرأة باعت جسدها للشيطان ، صورة صريحة توريك المرأة على حقيقتها ، مائة صفحة من اللذة المتواصلة ! ، أسرار الحياة الجنسية تُكتَب لأول مرة )
ويفتح الكتاب على صور عارٍية ويلوح به في إغراء ثم يعيد نداءه من جديد ( إبتهالات ، أوراد ، إستخارات ، خطب منبرية ، أحاديث ، تفاسير ) وبهذا فقد أرض كل الأذواق والملل ، ثم يختفي بين الموائد المزدحمة وسُحُب الدخان 
... وفي الركن يصفق زبون ، ويطلب قهوة على الريحة ، ثم ينسى الطلب وينام ، وينام وعلى وجهه الذباب ويتدلى فكه وتتراخى ذراعاه في شبه غيبوبة 
... والوقت يمضي ، والليل ينتصف ثم يقترب الفجر ويبدأ المقهى ينفض ، وتتحول الطبيعة النابضة إلى طبيعة ميتة ، الكراسي مصطفة في دوائر كل منها ينظر إلى الآخر كأنه يتكلم ، وعلى ظهر كل منها بقعة كبيرة من الزيت والعرق ، وعلى مقابضها بصمات متلاصقة ، وعلى الأرض آثار البُلَغ والأحذية والقباقيب والأقدام العارية وأعقاب السجائر ، وفي الركن الشيشة تستند إلى الحائط وجمراتها مازالت تنفث الدخان ، وعلى الحوض عشرات الأكواب المقلوبة 
... والمعلم يفتح درج الحساب ويعد القروش ، والجرسون ( عجورة ) يجلس القرفصاء على الأرض ، وقد إعتمد رأسه بين يديه ، وأمامه على الحائط تتدلى لوحة كبيرة مكتوب عليها بالكوفي ( يارب ) ، وإلى جوارها صورة للحرم النبوي ، وكشف طويل بأسعار الطلبات ( الينسون والقرفة والقهوة والشاي والمعسل ) ، وفي الناحية الأخرى ، يتكوم الحاج أمين العجوز معلنا خلوده للنوم ، وأمامه السواك والمنشة ، وقد استغرق في نوم عميق ، وإلى جواره يجلس ( المعلم زكي ) ، الزوج الثائر لكرامته يلعب وحده أمام طاولة مفتوحة ويلقي بالزهر في عصبية ، والصمت يلف المكان ، ويدوي له صوت في الأذن  
... وأخيرا يتحرك ( المعلم زكي ) لينهض ، وفي رأسه نية مبيتة والجميع يدعون ( ربنا يستر ربنا يجيب العواقب سليمة ) ، إنه ذاهب إلى مطلقته ، وهو ينهب الأرض بخطوات مسرعة وقد كشر عن أنيابه ، وشدد القبضة على عصاه ، ويهمهم بكلمات غير مفهومة ( لن تعيش فطومة بعد اليوم ، سوف تصبح في عداد الموتى ) ويعبر ( ميدان الحسين ) وأعصابه تغلي ، ويقطع شوطاً حامياً من المشي في عدة شوارع وأزقة بدون هدف ، ثم يبدأ في الهدوء وينسى أو يتناسى تهديده ووعيده ، وتتبخر ثورته ، وتذهب مع العرق ، وتتراخى قبضته على عصاه ويقف عند الجزار ليشتري عدة أرطال من ( اللحم ) ، ثم يقف مرة أخرى أمام قفص الدجاج ليشتري ( بطة ) ، ثم يضرب في الأزقة حتى يبلغ سوق الفاكهة فيشتري ( لبشة قصب) ، ويحمل هذه الهدايا كلها إلى بيت ( فطومة ) طليقته ، ويقف أمام الباب يدقه في فرحة حيوانية شهوانية ، وهو يبرم شاربه ، ويتخيل كم ستكون الليلة المقبلة ( حمراء ) ، وفطومة إلي جواره ، ويجري ريقه بطعم ساخن متلذذا بهداياه ، فيدق الباب من جديد ، وقد تدفقت في عروقه رغبة ملحة في الدخول ( وعفا الله عما سلف ) ، وفي نفس الوقت ، تدق ساعة الميدان ، لقد مضت ثلاث ساعات من الوقت ، الوقت الرخيص ولم تفتح فطومة ، وتمخض الأسد فولد فأرا وفاجأنا المؤذن بأذان الفجر إستقبالا ليوم جديد وقصص جديدة من شهر رمضان 
... تحياتي ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق