مجلة ضفاف القلوب الثقافية

الأحد، 15 سبتمبر 2024

فلسفة الموت و الحياة 9 بقلم علوي القاضي

 «(9)» فلسفة الموت والحياة 9

رؤيتي : د/علوي القاضي.

... وقفنا فى الفصول السابقة على رأي الفلاسفة والمتصوفة وعلماء الإسلام في فلسفة الموت والحياة ، كما شاهدنا كيف تناول الأدباء والشعراء وأبطال قصص الحب الشهيرة في فلسفة الموت والحياة كما رأينا وشاهدنا فلسفة القدماء المصريين والبوذيين في الموت والحياة ، وكيف كانوا يمارسون التحنيط لأموات الفراعنة أو التحنيط الذاتي للعابد البوذي ولاتزال المفاجٱت في تناول تلك الفلسفة العميقة واللامتناهية 

... وتتضح فلسفة الموت والحياة في (المذهب الرواقي) عند الكاتب الإيرانى اللاديني (صادق هدايت) ، يقول في تعريف الإنسان ، أنه مُكوَّن من نفس وبدَن ، والنفس متصلةٌ بالبدن ، وهي من ثَمَّ جسم ، إذ لايمكن أن يتصل جسمٌ إلا بجسم ، وهي مبدأ حياة الإنسان ومبدأ حركاته وأفكاره ، وإذا مات الإنسان فارَقَت النفس البدن ، ولكنها تبقى بعد فَنائه حتى يحترق العالم ، والنفس مُكوَّنة من ثمانية أجزاء ، أهمها مايسمى (العقل المُدبِّر أو المُهيمِن أوالمُوجِّه) "Hêgemonikon" وهو أهم أجزاء النفس جميعًا ومصدر أفكارنا ومشاعرنا ووعينا ووجداننا ، وحين يُولد الإنسان يكون عقله المُوجِّه خِلوًا كالصفحة البيضاء ، ثم تملؤها الإنطباعات الحسية التي تَرِد عليه ، ويكون منها ذكرياتٌ يتألف من مجموعها تجارب الإنسان ، وبعد ذلك ترتسم الأفكار ، فبعضها واردٌ من التربية التي يحصل عليها الإنسان ، وبعضها يعود إلى جهده الذاتي ، وبعضها فطريٌّ سابقٌ على كل تجربة ، والعقل البشري هو مجموع هذه الأفكار ، ولأنه سافر لعدة دول أوروبية لدراسة الهندسة فكان له قناعاته ورأيه إذ يقول ، والطبيعي جدا أن يسافر الإنسان ، أن يرحل ، أن يذهب بعيدا عن بيته ووطنه ليرى ويعرف ، إنه حب المعرفة إنها المغامرة إنه المجهول الذي يتحدانا ونتحداه إنها متعة المعرفة والخوف منها معا ، ولذلك فالرحلة هي مزيج من (الرغبة والرهبة) ومن (الشجاعة والخوف) ، والإنسان يفضل دائما أن يعرف المجهول مهما كان الثمن وكثيرا مادفع المسافرون أرواحهم من أجل أن يعرفوا ، وماتوا وهم يعرفون أكثر ، ولابد أن تعاستهم الوحيدة هي أن الموت حرمهم من أن يقولوا ما الذي رأوه ، وكثيرون رأوا وعادوا يقولون ، وضرب (صادق) لنا الأمثلة يقول :

.. المؤرخ (هيرودوت) جاء إلي مصر وعاد ورأى العجائب وكتب ، وكان يتغنى بما رأى في مهرجان الألعاب الأولمبية 

.. و (الإسكندر الأكبر) جاء إلي واحة سيوة وطلبت إليه إحدي الآلهات أن ينفرد بها وهمست فى أذنه بسر الكون 

.. والقائد (هانيبال) أقسم أن يعبر البحر وأن يجعل الأمواج بساطا إلي روما حتي يقضى علي كل روماني وحتي يمسك في يديه مصير مدينة روما إلي الأبد 

.. والرحالة الإيطالي (ماركو باولو) أهانته فتاه يحبها فأقسم ألا يعود إلي بلاده إلا وهو بطل ، تتعلق بحذائه عشرات الفتيات الجميلات ويرفضهن جميعا ، وعاد ولم يجد الفتيات ، ولم يحزن علي ذلك فالذي رآه أروع وأصدق 

.. و (ابن بطوطة) هاجمه الهنود ومزقوا مذكراته كلها وعاد ليروى ماحدث له في عشرين سنه من الذاكرة 

.. والرحالة (إبن جبير الكناني) الأندلسى الشاطبي قد تعب كثيرا في رحلاته في الشرق الأوسط ولكنه في النهاية كان سعيدا بما رأي ويشكر الله علي ذلك

.. لذلك كان (الترحال والسفر) فلسفته في الحياة ورغم ذلك مات منتحرا في شقته بباريس

... ومن رواية (مواجهة الأخطار سر الثراء) يعرض  (هشام الحجي السعيدي) فلسفته في الموت والحياة فيقول ، قال المعلم للشخص (.س.) الذي سيشرف على تدريبه ، (مهمتنا تبدأ من الهشاشة والضعف والتقهقر والتخلف والإنحطاط صعودا إنها تأخذ إتجاه النار والبرق والرعد على التوالي ، سيتصلب عمودك تدريجيا إن تخلصت من العناد واكتسبت قابلية التخلي ثم التعلم ، إننا نزداد قوة وصلابة وتحديا ، كلما تقدمت بنا السن ، كما أننا نتقدم نحو الربيع الدائم والشباب الدائم ، وليس نحو الضعف والشيخوخة ، فالموت والمقبرة ، نحن من فصيلة العناصر الكونية التي تتحول ولاتفنى

... ويحكي صديق لي عن مشاعره وهو طفل وحكايته التي لخصت فلسفة الموت والحياة في كلماته البريئة ، يحكي ، أنه ينظر وهو ذاهل ، يلحق وهو صغير أناسا يحملون صندوقا ويمشون به ! ، ينظر وهو ذاهل ، إنّها بنت جيرانه ، وهاهم يضعونها في التراب !واجتاحته الحيرة وعاصفة من الأسئلة ، يقول لنفسه لماذا يضعونها في التراب ؟! ، وأجابه شخص (لم يره من قبل ولايعرف من أين جاء) قال ، يابني ألم تسمع بالموت ! قال الطفل ، لا وماالموت ! ، قال الرجل ، بعد سنوات تعيشها على الأرض تموت ! قال الطفل ، فلماذا أعيش وأنا سأموت ؟! ، قال الرجل ، يجب أن تسأل عن الحياة مَن خلقها ، وهو يريد أن ينتخب منكم فريقا ليسكنهم الجنة هو هكذا ، أنت يابني تعيش سنوات فقط ، جسمك يجفّ وينكمش كما تجفّ الأشجار ، قال الطفل ، أنا لاأريد حياة تموت ! ، قال الرجل ، كم أفزعتك الحياة بلاخلود ! قلت لك ، أنّك إذا أحسنت ستخلد في مكان ما ، مابينك وبين الخلود سوى أن تذوق الموت الذي تفرّ منه ، وإنّك ستعيش هنا رغما عنك ! ، فتعلَّم الطاعة أيّها الفتى ! ، قال الطفل ، حتى هذه الساعة كنت أحسب أنني سأبقى مثل هذه الأشجار ، وعرفتُ اليوم أنني غريب عن هذه الحياة وكلّها ستبقى إلاّ أنا ، وأنّني أمُرُّ عن كلّ منظر فيها مَرَّة واحدة ، ولاأعود ، وعرفتُ أنّ الأحياء نصيبهم واحد ، فقراء وأغنياء ، هو مايأكلون ويشربون ، ماداموا يموتون ! ، وإذا قال أحدهم ، أنا مجيد ! ، قل له ، من أيّ يوم يبدأ مجدك ، وفي أيّ يوم ينتهي ! ، لامجد لمن يموت ، ذهب الرجل ، ومشى الطفل في الطريق التي تملؤها الرياح وهو يفكّر بالموت ، فرأى قِطّا ميّتا ! ، نزَل عليه ينظر إليه بدقّة ، وإذا بالديدان تملأ تجويف رأسه ! ، قام الطفل ونظَرَ إلى السماء يريد أن يصرخ من شدّة الألم ! ، وهو يقول لنفسه ، كلّ هذا سيحدث لي ! ومشى وقال ، ولكن لماذا كلّ هذا ؟! ، أعطيك شيئا ثم آخذه منك ! ، فظهر ذلك الرجل ثانية وأجابه ، أنت هنا لتعمل لالتحيا ، وتذهب يوم الموت لتحيا ولاتعمل ، ورد الطفل قائلا كيف أعيش وأنا سأذهب إلى تلك الحفرة ؟! ، يجب أن أسأل عن الموت أكثر من سؤالي عن الحياة وأعرفُ عنه كلّ شيء كما تعرفون عن هذه الحياة ! ، ومشى ذلك الطفل وقد عرَفَ كلّ الحكمة ، بأسئلة نفسه الصادقة ، وهو يتعجّب من كلّ ذلك العِلْم الذي جمعه من تلك الأسئلة ، ويتعجّب من إنسان يعيش بلاأسئلة ، والأعجبُ أن لاتعرف إجابة الأسئلة عندها يعمّ الظلام هذا العالَم ! ، لأنّ العالَم هذا موجود في عقل الإنسان ، يفتح غرَفَه الكثيرة كلّ يوم بسؤال وإجابة ! ، ومضى وهو يقول في نفسه ، فمتى يوم الموت ؟! فظهر الرجل ورد عليه ، لا أعرف ، هو في كلّ لحظة والحياة في كلّ لحظة أيضاً ! ، والموت يستحقّ عمَلنا أكثر من الدنيا في تلك اللحظة ، لأنّه بوابة خلودنا والدنيا تنتهي بفنائنا ، فإن كان لك حائط متداع وحائط متين على أيّهما تبني ؟!

... وعلى غرار ماحدث لصديقي في طفولته ، كنت في تشييع جنازة أحدهم وظللت أحدث نفسي ، هاهم يدفنونه ، فاسألوه لو كان ينطق ، مامعنى بيت ، مدينة ، عشيرة ؟! ، مامعنى إبن ، زوجة ؟! ، مامعنى كل شيء عرفه ؟! ، إنما كنّا نكتب في صفحة حتى إمتلأت ، وفي لحظة الموت أرقنا عليها الماء ، لم يبق من كتاباتنا إلّا كلمة الله ، لمن كتبها ، وإن لم تلقَ الله ، فحياتك كذبة وحبر سكبت عليه الماء

... ويؤكد (ماركوس اوريليوس) المعنى فيقول ، أنت ياصديقي ، أرأيتَ ماتراه من النافذة وأنت تركب قطارا ، هل ماتراه هو هدفك وغايتك أم المدينة التي أنت ذاهب إليها ؟! ، فنحن لم تبدأ حياتنا ولم نصل حياتنا الثانية بعد ، يجب أن تؤمن بالحياة الثانية كي تقدر أن تجتاز هذه الحياة ، تقول لنفسك هي إختبار ، ويختار الله الصالحين منّا للحياة الخالدة وأن شرورها ليست هي الغاية ، إنما الغاية أن يرانا الله كيف نتعامل معها ، فلا تَحتقِر الموت ، بل رحِّب بَه لأنه جزءٌ أيضًا مما تريده الطبيعة ، فمثلما نشبُّ ونشيخ ، ومثلما نكبر وننضج ، وتنمو أسناننا ولحانا وشعرنا الرمادي ، ومثلما نتزوج وننجب ، كذلك نموت ونتحلل ، فمن أَلِف التفكير والتعقُّل لايجزع من الموت ولا يبتئس له ولاينفر منه ، بل ينتظره كما ينتظر فعلًا من أفعال الطبيعة ! ، وكما أنك الآن قد تكون منتظرًا طفلًا حمَلَته إمرأتك أن يُولَد من رحمها ، كذلك ينبغي لك أن تتشوَّف إلى اللحظة التي تَنسلُّ فيها روحك من هذا الغلاف 

... وإلى لقاء في الجزء العاشر والأخير إن قدر لنا ذلك وقدرت لنا الحياة

... تحياتى ....


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق