نقد وتحقيق : د/علوي القاضي.
... وصلا بما سبق ، في مسلسل (رحلة السيد أبو العلا البشرى) أعجبني جدا مشهد حواري بين (أبو العلا) وإبن عمه ، قال فيه (إنت عارف إيه المشكلة ؟! ، إني ربيت إبني صح علي القيم والأخلاق فمبقاش عارف يعيش !) ، هذه الجملة صدمتني جدا ، لأن هذا الحوار ، رغم أنه منذ ٣٩ عام ! ، لكنه لامس واقعنا الٱن بشكل دقيق ولأن الواقع الحالي أكثر فظاعه من الذي تم عرضه في المسلسل ، أعني أنه لو كان حدث بعض التغيير في القيم في زمن المسلسل ، فنحن الٱن نحفر في الأرض ونبذل قصارى جهدنا من أجل تثبيت قيمة واحدة باقيه ، رغم أن مجهودنا غير واضح وغير مؤثر ، وسط إنعدام شبه كامل للقيم والأخلاق
... كنت أعلم أن المسلسل صعب ومؤثر جدا ، لكنني لم أتخيل أنه مؤثر بهذا المستوى من الحلقة الاولي !
... فى (الحلقة الأخيرة) ، يقول أبو العلا (في لحظة ندم) بعدما خاض الكثير من الإخفاقات واصفا نفسه (إسقاط) (ساعتى قديمة وخربانة وعايزة الكسر) ، يرد عليه مجدى البشرى (لاياعمى دى ساعات أصيلة ، ماركات قديمة يدوية لكن معادوش بيصلحوها)
... فهل لو إستمرت رحلة (السيد أبو العلا البشري) إلى الآن هل كان سيظل (دونكوشت) ويحارب طواحين الهوا بمثله العليا ، وهل كان سيستمر نقيًا حالمًا بالخير والحب والجمال ؟!
... بالبحث عن القصة عرفت أن قصة هذا المسلسل مقتبسة من الرواية العالمية (دون كي شوت) للأديب الأسباني (ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا) ، نشرها على جزئين بين أعوام (1605 و1615) ، إشتهرت الرواية بين الأدباء العرب بالعديد من الأسماء مثل (دون كيشوت) ، قصة رجل ظن نفسه في مهمة مقدسة حيث خرج علي جواده حاملًا رمحه ، يقتلع أي شجرة أو نخلة أو حتي طواحين الهواء معتقدا أنها قوي الشر حتي إتهمه الناس بالجنون
... تلك المشاهد التي شاهدتها في التسعينات وأثرت أيما تأثير ، وتركت لقطات ومشاهد في مخيلة العقل والنفس حتى الآن ، البطل العائد بعد البعاد والغربه عن المجتمع ليندهش من كم التغيرات المجتمعية والأخلاقية في الوسط المحيط به والقريب منه ، يبدأ عازما على محاولة بعث أخلاق الٱباء والأجداد ، فيبدأ منكبا على خبراته وعلمه وثقافته وقناعته ، ثم تنكب عليه الإحباطات ومحطات الذهول من إختلاف الطباع عن وقت مغادرته للمكان ، لايدري بأن تركه للمكان كان يوازي مغادرة الزمان ذاته ، يقع تحت سوء الحظ مرة ، وتحت نفور وإبتعاد الأحبة مرات ! ، لكنه لايرغب عن طريقته التي لم تعد تصلح للزمن نفسه ، يناوشني الآن سؤال : هل في سفره وابتعاده لم يواجه شخصيات ونفوس أخرى غيرتها الضغوط ؟! ، بالطبع واجه الكثير ، ولكنه في أعماقه كانت معارفه لها صورة واحدة غير متغيرة لاترضى بديل ، مثلما تبتعد عن أولادك في سفر مثلا فتعود وأنت تعتقد أنهم مازالوا يحبون نفس الأبطال ونفس المسلسل وتتفاجيء بأنهم تغيروا لما عاشوه وزامنوه !
... مع تكرار سقطات (بطل القصة) يشوبه اليأس أحيانا ، وتنهال عليه مطارق الأسى ، ثم لايلبث عائدا متخذا الدور الموكل له كبطل متحملا العذاب المقرر عليه إلى النهاية
... لذلك كان في معظم المشاهد نجد الكتاب الملقي بين يديه وعلى سريره دائما هو كتاب (دون كيشوت) مع أنه لم يكن (كيشوتا) أبدا ، ولم يكن محاربا لطواحين الهواء ، بل كان يسعي للبحث عن قيم إندثرت في عالم قست فيه قلوب البشر
... بالرغم من وبغض النظر عن أن كل الفلاسفة والكتاب المذكورين في (الحوار الشهير) في المسلسل لايتكلمون عن منهج وشرع الله كمنهج إصلاحي للمجتمع ولذلك فأنا أختلف مع كاتب السيناريو ، إلا أن الحوار وسياقه مع أحداث المسلسل قمه فى الرقى والأدب والفكر والفهم ، والبطل فى المسلسل يحث الشباب على الأخلاق والقيم الإنسانية وياليت كل المسلسلات فى أيامنا هذه تكون بهذا الرقي الأخلاقى وتنهج هذا النهج في إصلاح المجتمع وتعديل سلوكه ولو كانت كلماتهم من منهج وشرع الله لأثمرت خيرا كثيرا
... ولاشك أن الصلاح والفلاح هو تحقيق الغاية وهي الجنة ووسيلتها تطبيق منهج وشرع الله ، وثمارها في الدنيا هي المدينة الفاضلة ، ولكن توقع التعب والنصب والكد وتجاوزه هو كمال العقل
... وأنا أعتقد أن الإنسان في الدنيا كزائر فندق إن كان يقدر النعمة لم يترك غرفته قذرة ، وإن كان يعقل لم ينفق فيها إلا الضرورى ، وليضع نصب عينيه أنها ليست ملكه وإنما منتفع بمنفعة العين فقط ، والإغراق في كلام الأدباء عن المدينة الفاضلة حماقة ، فإنما النفع كل النفع في ركعتين قيام بين يدي الله سبحانه ، وقدرك علي قدر مقدار سجودك بين يدي الله فهذه هي الحقيقة الوحيدة الفائقة الجمال
... الأديب أو الكاتب الحق في عصرنا هو من يصنع خيرا يبق في الارض بعد موته يبتغي به الجنة
أما الكلمات والأهواء والأعمال السطحية فلا طائل من ورائها إلا ضياع الوقت والعمر والصحة ، فتسبيحة واحدة خير من ذلك فهي درجة من درجات الجنة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق