مجلة ضفاف القلوب الثقافية

الأحد، 13 يوليو 2025

ليلة تاريخية بقلم: ماهر اللطيف

ليلة تاريخية

بقلم: ماهر اللطيف

تعالت الزغاريد من كل حدب وصوب، ودوَّت الموسيقى الصاخبة عبر مكبرات الصوت في أكثر من دار. رُصفت الكراسي أمام المنازل، ونُصبت المنصات، وأُغلقت شوارع وأزقة الحي، فيما شوهدت شاحنات المشروبات الغازية تُفرغ شحنتها هنا وهناك، وكذا شاحنات الخضر والغلال واللحوم وسواها. رُكِّبت الأغطية الواقية من الشمس فوق سطوح المنازل، وانتشرت المصابيح الكهربائية في كل مكان، فدبَّت في الحي حركة غير معهودة.

كيف لا، ونتيجة امتحان البكالوريا قد أُعلنت منذ دقائق! فبكى من بكى وأُغلقت أبواب بعض الدور، واستسلم أصحابها للحزن والندم، ولوم النفس على التقصير والتفريط، وانشغلوا بتبادل التهم والتعلات الواهية، وحسد بعضهم الناجحين ونسجوا القصص حول كيفية نجاحهم.

أما الناجحون، فابتهجوا فرحًا شديدًا، وأقاموا الحفلات والمآدب احتفاءً بهذه المناسبة العظيمة التي لا تتكرر مرتين في حياة أي إنسان. ومن بينهم "عبلة"، ابنة "عبد الهادي الجزار" و"آمنة الخياطة"، وأخت "علي"، لاعب كرة القدم في جمعية المدينة الناشطة في الرابطة المحترفة الأولى، و"سعيد"، الذي يعمل مع والده في محل الجزارة الكائن على أطراف الطريق الرئيسي - وهو الابن الأوسط.

صرخت عبلة فجأة وهي ترقص وتقفز عاليًا:
"نجحت! نجحت! نجحت يا أمي! نجحت يا هدهود!" (تنادي والدها بهذا الاسم).
"الحمد والشكر لله!"

ثم أطلقت الزغاريد، فتتبعتها آمنة، وسرعان ما التحقت بهما الجارات، مطلقات حناجرهن بالزغاريد المتتالية، وقد بدت عليهن جميعًا الغبطة بعد انقشاع الخوف والقلق.

أما علي وسعيد، فاحتضنا أختهما وشرعا في تهنئتها بحرارة بهذا "الحدث الجلل" الذي فشلا في تحقيقه من قبل رغم محاولاتهما العديدة، مما دفعهما إلى ترك الدراسة نهائيًا والانخراط في سوق العمل حتى لا يضيّعا مزيدًا من الوقت.

وفي غمرة هذه الفرحة، قفز عبد الهادي عاليًا، واغرورقت عيناه بالدموع، وارتعد جسده وارتخى. رفع يديه عاليًا حامدًا الله وشاكره، ثم انطلق مسرعًا نحو عبلة ليضمها إليه ويقبلها بحرارة - وهو يرقص رقصًا عفويًا بدا مضحكًا لمن يشاهده -، فقد "رفعت رأسه بين الناس" أخيرًا، بعد أن أخفق أخواها في ذلك من قبل.

لكن فجأة شعر بألم مباغت يطبق على صدره حتى كاد يتحجر وينتفخ، فأعاق تنفسه وكاد يفقد وعيه. ومع ذلك، تماسك وأخفى حالته، وضم ابنته إلى صدره - والألم يشتد به -، ورقص معها بينما كانت الدنيا تدور به وتريه الويلات.

أخرج من جيبه حزمة من الأوراق النقدية وأهداها لها، ثم وعدها بإقامة حفل "بديع" بهذه المناسبة الليلة - وكان بالكاد يقوى على تحمل الألم، وقد تغيرت ملامحه وبدأ يلهث ويتصبب عرقًا -، ثم انطلق إلى سيارته فجأة دون سابق إنذار.
سألته عبلة في دهشة:

- أبي، ما بك؟ ما الذي حدث لك يا أغلى هدهود؟

- (وهو يشغل محرك السيارة، يحاول جمع أنفاسه بصوت متقطع) لا تقلقي، بنيتي، سأشتري لك بعض اللوازم والهدايا...

- (مقاطعة بدلالها) ابق معنا الآن، وأجّل ذلك إلى ما بعد...

لكن السيارة تحركت بسرعة، وعبد الهادي يتصارع مع الألم والموت.

استمر الأخوان في تجهيز مكان الحفل، وشرعت آمنة في إعداد عشاء فاخر بمساعدة الجيران. اتصلت عبلة بزميلاتها وزملائها، تواسي البعض وتحفزهم على الصبر والمثابرة، وتهنئ الآخرين وتبارك لهم، تزغرد وتقفز وتضحك.

وفي هذه الأثناء، كان عبد الهادي يخضع لفحوصات طبية معمقة في المستشفى الجهوي. وبعد التحاليل والأشعة وتخطيط القلب، نُقل إلى قسم الأمراض الصدرية، حيث تبيّن أنه يعاني من "استرواح صدري" حاد، نتيجة تدخينه المفرط، ما تطلّب تدخلاً جراحياً عاجلاً.

حلّ المساء، ولم يعد عبد الهادي إلى منزله، وظل هاتفه مغلقًا. راود القلق آمنة التي ظلت تردد: "اللهم اجعله خيرًا"، فأرسلت علي وسعيد للبحث عنه في كل مكان.

ظل الفرح مستمرًا، رغم القلق الذي بدأ يخيم على القلوب.

كان عبد الهادي في تلك اللحظات غارقًا في حزنه، لأنه سيتغيب عن حفل ابنته الذي طالما انتظره. لم يكن يكترث لحالته الصحية بقدر قلقه على فرحتها. وتذكّر تلك الليلة الشتوية التي كاد فيها أن يفقد زوجته أو ابنته أثناء ولادتها القيصرية الصعبة، حين خيّره الأطباء بين إنقاذ الزوجة أو الجنين، فاختار الإبقاء على زوجته. لكن رحمة الله وسعت كليهما.

بعد عناء وبحث في المستشفيات والمراكز الأمنية، علم علي وسعيد بمكان والدهما، لكنه كان قد دخل غرفة العمليات.

حار الولدان: هل يخبران عبلة ويفسدان عليها فرحتها، أم ينتظران إلى أن تتضح الأمور؟

قررا العودة إلى البيت وإخفاء الأمر مؤقتاً، وأخبرا والدتهما فقط، فواصلوا الاحتفال رغم القلق الذي يعتصر قلوبهم.

سألت عبلة مراراً عن والدها، فأجابها الجميع أنه منشغل بجلب هديتها الثمينة.

وحين انتهى الحفل، أخبروها بالحقيقة، فانفجرت بالبكاء، وهرع الجميع إلى المستشفى، حيث وجدوا عبد الهادي قد استفاق من التخدير، يتألم، لكنه يحمد الله على سلامته.

بعد أيام قليلة، عاد إلى منزله ليقضي فترة نقاهة، لكنه لم يُقلع عن التدخين، بل زاد تمسكًا به كمن يعاند القدر، قائلاً: "لا أستطيع التخلي عن هذه العادة، فقد أصبحت جزءًا مني".

ومع كل سعال يمزق صدره، وكل وخزة تنهش رئته، ظل يسأل نفسه:
إلى متى سأراوغ الموت على حلبة الحياة القاسية؟ وهل تمنحني الحياة فرصة أخرى، أم تسدل الستار قريبًا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق