كتابةٌ على حافة الانهيار
✍ بقلم: جبران العشملي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنا كاتبٌ بلا قُرّاء،
على جزيرةٍ منسيةٍ،
محاصَرةٍ ببصاقِ الآلهة،
وبحوافرِ النفطِ،
وعيونِ المرايا المُخادعة.
أنا نخلةٌ نَخَرها الندمُ،
تنتصبُ كعلامةِ تعجّبٍ في كتابِ الحزن،
جذعُها مائلٌ نحو الجنوب،
حيث المآتمُ تسيلُ بلونِ التُّراب،
وحيثُ "النوحُ"
أكثرُ نغمةٍ تليقُ بالهوية.
يسمّونني الشِعر،
وأُسَمّي نفسي:
فراغٌ لم يجدْ من يملأهُ سوى النُدب.
---
عن ماذا أكتب؟
لم أرَ باريسَ إلا في زجاجةِ عطرٍ مقلّدة،
ولم ألمس يدَ امرأةٍ تصنعُ القهوةَ دون أن تُكحّلها بالحرب.
لم أجلس على مقعدِ طائرة،
لكنني جلستُ كثيرًا على حافةِ الانهيار.
---
وما الذي يكتبه الفقراء؟
عن لُقمةٍ تُغسل بالدمع قبل المضغ،
عن راتبٍ يُختزلُ في سيجارةٍ قبل النوم،
وفي قهوةٍ بلا حليب، ولا حنان.
أنا كاتبٌ من الطبقةِ التي لا تحبُّ الأسقف العالية،
لأنها تخنقُ الأملَ كما يخنقُ الحُبُّ في زقاقٍ ضيّق.
---
حبيبتي كانت تقتربُ مني،
كما يقتربُ السقفُ من رأسِ السجين،
تعانقني بجسدٍ يعرفني أكثر مما تعرفني عيناها،
ولم تسأل مرّةً:
"ما لونُ وجعي؟"
أجبتها ذات مرّة:
أسودٌ فاحم، كقلبِ جنديٍّ عاد من الحربِ ولم يعانق أمَّه.
أطفالي؟
يغادرون دون حلوى،
دون "انتبه لنفسك"،
بأفواهٍ محشوةٍ بشتائمَ مستعارةٍ من التلفاز.
---
كان لي جناح،
لا أحلّق به...
كنتُ أكتبه.
أرسلتهُ لصديقٍ افتراضيٍّ
مشغولٍ بعدّ لايكاته،
فمرّ عليه كما تمرُّ العصافيرُ على قنبلةٍ غير منفجرة.
---
كتبتُ عن العودة،
عن فلسطين،
عن الحنين الذي لا يجدُ من يستقبلهُ في المطار.
فأغلق رسائلي،
وسافرَ شمالًا،
ليكتب عن أفخاذِ الثلج،
وعيونِ النساءِ التي تشبهُ نوافذَ جنيف،
ويرسلَ لي صورَ قططٍ مدلّلة،
تتغوّط في أطباقٍ من الياقوت.
---
ما الذي تبقّى لأكتبه؟
عن جُرحٍ استأصلهُ الجرّاحُ وقال لي:
"ورمٌ حميد"،
لكنّي عرفتُ أنه وطنٌ صغير
سقطَ منّي في صالةِ الانتظار.
---
أكتبُ بقهوةٍ منزوعةِ الكافيين،
وبأصابعَ أكلها التهميش،
وجيبٍ فارغٍ،
إلا من قصاصاتٍ كتب عليها أحدهم:
"الشِعرُ لا يُطعمُ أولادَك".
---
يصمت الفقراء؟
لا.
الفقراء يصرخون داخل علبِ الصفيح،
ويلتقطون الهواءَ بملعقةٍ مثقوبة،
لكنّهم لا يصمتون.
بل...
ليصمت من لا يعرفُ
كيف يُولدُ النصُّ من حفرةٍ في الروح،
ومن طابورِ الخبز،
ومن رائحةِ البنزينِ المحروق.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق