الاثنين، 21 يونيو 2021

من ثقافات الشعوب بقلم رماز الأعرج

 من ثقافات الشعوب

الجماعة كوحدة موجودة واقعيا هي كائن حي مستقل بذاته ولها نظامها الخاص الموضوعي والذاتي , ولكل جماعة ذات ثقافة معينة مميزة فريدة و أخلاقيات وسلوك ومفاهيم أخلاقية و قيم إنسانية واجتماعية والكثير غيرها , وقد يصل الاختلاف إلى التناقض المباشر أحيانا .

عرفت الكثير من المجتمعات سلوكيات معينة و توارثتها في سياق ثقافتها آلاف السنين , وعلى الرغم من اختلاف الرؤية لهذه السلوكيات عبر التاريخ بين حضارة وأخرى , إلا أنها تتوارثها كما هي , بل تطورها مع العصر وتستمر هذه السلوكيات عبر الزمن دون أن تشعر بها الشعوب .

دعنا نأخذ مثلا مباشر ليسهل التعامل مع الموضوع , التواضع و الثقة بالنفس  والفخار عند العرب في الجاهلية .

وائل ابن ربيعة ألتغلبي مثلا سما نفسه كليب وحين سؤل عن ذلك قال , (لا قيمة للأسماء , نحن من نعزها ولا تعزنا) و إمعان في رؤيته هذه و تطبيقا لها سمى ابنه الجرو , وسماه أبناء عصره بأعز العرب , وعرف بشهامته وأصالته وكرمه وغزة نفسه وإبائها للذل .

وذكر عن سيف الدولة انه عاتب المتنبي على إكثاره من مديحه له , و ألقوته , وضن انه في الحقيقة كما هو في الشعر ليس كشخص عادي بل كقائد لجيوش جرارة ترتجف منها الأعداء , ولكنه حين خسر بعض المعارك عتب على المتنبي واتهمه بالتسبب في هزيمته , بحيث اعتمد هو أي سيف الدولة على ما كان يسمعه من شعر وفخار به ومبالغات ومديح .

تواضع العرب في ذلك العصر في حياتهم وسلوكهم وتقشفهم , ولكنهم تفاخروا أيضا , والفخر كان من المظاهر السلوكية الشائعة في الجاهلية , ونجدها بكل وضوح في المعلقات جميعها , بل لا تكاد تخلوا من قصيدة حتى في الحب والغرام , وبالغوا في الفخار لدرجة الكذب والأسطورة أحيانا ,  سواء في الأنساب أو الألقاب أو القوة الحروب أو الحب والصيد , وفي كل مجالات حياتهم ونشاطها الضروري تجد الفخار حتى في الصيغ الغوية القديمة و التعبير الغوي العادي .

ورغم أن الديانة المسيحية كانت منتشرة ومتواجدة حتى في وسط الجزيرة العربية واليمن ومكة , و في هذه الديانة يعتبر التواضع رمزها الأمثل , ولكن الصفة الغالبة لسكان الجزيرة العربية تحديدا كان الفخر , حتى في القبائل المسيحية المعروفة مثل كندة و الغساسنة وغيرهم من القبائل قبل الإسلام . 

جاء الإسلام أيضا وأكمل مسيرة التواضع  كسلوك أخلاقي حميد ومرغوب , رغم الفخار الموجود في الشعر في منافسات الشعراء في المديح للنبي عليه الصلاة وسلام , والفخار بالإسلام كدين جديد للعرب وصالح للبشرية جمعاء , وهذا واضح بكل أمانة في الأحاديث الشريفة , (لا فرق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى) وهكذى حافظ الإسلام في الجزيرة على تواصله مع العالم الخارجي وعاش ثقافة عصره وسعى لتطويرها , وتعايش معها واستفاد منها .

ورغم كل ما وضعه الإسلام من قيمة للتواضع و اعتبار الفخر سلوك جاهلي , نابع من الثقافة البدوية الخشنة الكثيرة الصراعات بين القبائل والصيادين والرعيان وغيرها من الأنشطة التي يتفاخر ممارسيها عادتا بكل سلوك ونشاط يقومون به , ( ومن منا لا يعرف كذب الصيادين , كيف يصبح العصفور نسرا , وفرخ السردين سمكة قرش ضخمة وغيرها من أكاذيب الصيد و الفخار بمنجزاته ) .

إن الثقافة أحيانا تبقى أقوى من الدين ذاته كقانون سلوكي معروف ومقر به , بل  كلا يمارس هذا السلوك أحيانا بحسب رؤيته هو وثقافته الخاصة , ولو نظرنا بشكل مباشر إلى سلوك السؤل السياسي في الكثير من المجتمعات العربية سنكتشف على الفور مدى التفاخر بالمسؤولية الاجتماعية أو  السياسية مثلا , فتجد المسئول ينقلب حاله رأسا على عقب , ويصاب بالعطب الاجتماعي بعد تسلمه لمنصبه السياسي , بل يعيش البعض في مجتمعات مغلقة محددة لا يعرف فيها ما يدور في المجتمع حقيقة , بل يتحول إلى أداة إدارية محضة لا يفقه حتى إبعاد ما يقوم به من نشاط و سلوك .

رغم أن الغالبية العظمى منا يرى في هذا السلوك شيء منتقد , ولكن لا ضمانة له حين يصبح هو ذاته في هذا الموقف , هذا ليس لكوننا مرضى نفسيا كما يحاول بعض المحللين النفسيين لسلوك الجماعة القول , بل هذا بسبب المورث الثقافي الذي لم يتغير وتوارث مع العصر , وهو سلوك مختلف من ثقافة إلى غيرها بحسب الظرف الخاص بكل امة .

مثلا في بعض المجتمعات الأوروبية تجد النظرة للمسؤولية السياسية نظرة وظيفية بحتة , بالنسبة للناس بشكل عام , برغم عدم ثقتهم بالسياسيين إجمالا , ويرونها وظيفة ودور إداري ينتهي مع انتهاء المهمة , ورغم احترامهم للشخصيات الصادقة التي تقوم بدورها بشكل مخلص , ولكن هذا يعتبر واجب من يعمل في هذه المهمة , وهذا طبيعي أن يكون مخلصا لعمله كما أي موظف إداري آخر , رغم الفارق في حجم المسؤولية طبعا ونوعيتها .

إن ظاهرة التفاخر هي ظاهر متنوعة وليس بالضرورة أن تكون دوما مرضية ,  ولكن لها أسبابها المختلفة من مجتمع الآخر وثقافة و أخرى , ونجد مثلا في  العاب الرياضة لا يوجد شعب أو فريق إلا وتفاخر في غلبته للفريق الآخر , وخاصة المشجعين للفريق ,  وهذا يعتبر طبيعي وسلوك لا غبار عليه , بينما في حالات أخرى نراه عيب وسلوك غير مرضي عنه .

في الإسلام مثلا نجد رمزية التواضع واضحة حتى اليوم , فيما لو نظرنا إلى ثياب الإمام ورجال الدين مثلا  , حتى الرسميين منهم , وكبارهم , تجدهم في ثياب تقشفية وغير فاخرة , بل يتواضعون في مظهرهم الخارجي دوما وفي سلوكهم , وهذا من الصفات الحميدة المرغوبة أصلا في الثقافة الإسلامية بشكل عام , طبعا لا تحريم للتفاخر , ولكنه ليس مرغوب والتواضع و الصدق هو من صفات الإنسان المسلم الحق في النهاية .

في النهاية تبقى هذه القضية نسبية و سلوكية وأخلاقية مختلفة من عصر لآخر ومن مجتمع لآخر , والفوارق متفاوتة في تنوعها بين الشعوب فيما تفخر به وفيما لا تفخر , ولا يمكن وجود ثقافة خالية من هذا النوع من السلوك رغم النظرة العامة الرافضة له بشكل عام في جميع الثقافات , ولو عدنا إلى التاريخ المكتوب والآثار , سنجد آلاف الدلائل على توارث هذا السلوك من القديم , من  ما قبل جلجامش , وغيرها من الملاحم والأساطير التي ورثتها البشرية , وعند الفراعنة أيضا وغيرهم من الحضارات , التي عبرت عن مراحل متنوعة من حياة الشعوب في مسيرتها الحضارية .

رماز الأعرج



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

لإبتعادي أسباب بقلم إسحاق قشاقش

(لإبتعادي أسباب) لقد ضاع عمري بالغياب وشاب رأسي وضاع مني الشباب وبت لا أعرف غدي من أمسي وترهلت على جسدي الثياب ولا أعرف كيف أُرسي وكم كنا من...