الاثنين، 1 أغسطس 2022

الصِمّة القُشيري وريّا بقلم عبدالحميد ديوان

 الصِمّة القُشيري وريّا


وهذه قصة أخرى تخرج من محيط بني عذره ولكنها في جوهرها لا تبتعد عن مضمون الحب العذري العفيف الذي يطوّق حياة العرب في جزيرتهم قبل الإسلام وبعده.

ونجد أيضاً في قصة الصِمّة القشيري أن نهج حياته يختلف عن قصة المجنون (قيس بن الملوح) وعن عروة وعفراء وغيرها من قصص العذريين فأولئك أفنوا حياتهم في بثّ حبهم لأحبّتهم ولم يتزوجوا بغيرهنَّ بل كنّ محور حياتهم وشعرهم مقصور عليهن.

أما الصمة القشيري فشعره معظمه في حبيته ريا ولكن قسماً منه كان في تصوير غربته عن الديار وغضبةً من عمه وأبيه معاً لأنهما أبطلا زواجه من حبيبته بسبب ناقة واحدة.

ولنعد إلى قصة ذلك العاشق إنه الصمة بن عبد الله بن الطفيل بن قشير من بني عامر من عشائر سلمة الخير.

وكان الصمة شاعراً شريفاً ناسكاً عفيف النفس واللسان وهو من شعراء نجد. وكان أحد فتيان بني عامر المشهود لهم بالشجاعة والنجابة.

وقد تعلّق بابنة عمه ريا منذ أن وعيا معاً. وكانت ذات حسن وجمال وظرف، وكانت ذكية فطنة عليمة بأيام العرب وأنسابهم وأشعارهم. وقد نشآ معاً وكانا يتذاكران الأخبار والشعر وما جرى على ألسنة الشعراء العشاق.

وأحب الصمة ابنة عمه ريا حباً ملك عليه فؤاده وسيطر على عقله، ولكن ريا لم تكن تحب الصمة كما يحبها ولذلك تضايق الصمة من ذلك وشكا الأمر إلى بعض أصدقائه فنصحوه أن يطلبها من عمه فإن عمه لن يرده خائباً.

فذهب الصمة إلى عمه فخطب منه ابنته ريا فقال له: لا أزوجها إلا على مائة من الإبل فذهب إلى أبيه فأعلمه بذلك وشكا إليه حبه لها ووجده بها فأعطاه تسعة وتسعين بعيراً، وقال له: خذها فإنها كلُّ ما أملك ولعل عمك يقبلها. فلما جاء بها إلى عمه عدّها فإذا هي تنقص بعيراً مما طلب، فقال: لا آخذها إلا كاملة فلما رأى ذلك من عمه رجع حزيناً آسفاً وأعاد الإبل إلى مراعيها وأخذ يبكي نفسه وحظه.

وما هي إلا فترة قصيرة من الزمن حتى جاء أحد فتيان بني عامر إلى أبي ريا خاطباً منه ابنته ودفع له ما أراد من الإبل فزوجها إليه. ولما سمع الصمة بالخبر وجد وجداً شديداً (أي حزن) وأظلمت الدنيا في عينيه فبكى واشتد بكاؤه لفقده من أحبها، وحاول أن يلم بها أو يلقاها فصدّته عنها فبكى وأنشد:

لعمري لئن كنتم على النأي والقِلى

بكم مثل ما بي إنّكم لصديقُ

إذا زفرات الحب صعَّدْن في الحشا

رددن ولم ينهج لهنّ طريقُ

ولمّا اشتدّ الشوق بالصمة أسقمه الشوق وسقط في المرض الذي لا شفاء منه إلاّ بلقاء الحبيب، فأخذه أبوه إلى كاهن لعله يشفيه مما به، وكان الكاهن يسمى غاوي بن رشيد، فلما سأله عن مرضه وألحّ في السؤال أجابه الصمة قائلاً:

حننتَ إلى ريا ونفسك باعدت

مزارك من ريا وشعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً

وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا

كأنك لم تشهد وداع مفارقٍ

ولم تر شِعبَيْ صاحبين تقطّعا

أمن أجل دار بالرقاشين أعصفت

عليها رياح الصيف بدءاً ورجّعا

بكت عينك اليسرى فلما زجرتها

عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

فليست عشيات الحمى برواجع

إليك ولكن خلِّ عينيك تدمعا

ولمّا رأيت البشرَ أعرض دوننا

وحالت بنات الشوق يحنن نزعا

تلفتُّ نحو الحيّ حتى وجدتُني

وجعتُ من الإصغاء ليتاً وأخدعا

أما وجلال الله لو تذكرينني

كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا

فقال الكاهن لأبيه إنه يشكو العشق لا غيره، وليس له عندي دواء إنما دواؤه الرحلة حتى ينسى.

فعاد به أبوه إلى الحيّ وأخذ رفاقه وأصدقاؤه يحثونه على الغزو والجهاد مع المحاربين في بلاد إيران لأن الجهاد هو المخرج الوحيد له لكي ينسى ويسلى حبه. فأقام مدة يسيرة ثم رحل مع جماعة كانوا راحلين نحو العراق، وألمّ ببيت ريّا فخرجت إليه تودّعه فذكرا ما بينهما فأنشدها:

أما وجلال الله لو تذكرينني

كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا

فقالت: بلى والله ذكرا لو أنه

يُصَبُّ على صُمِّ الصفا لتصدّعا

وتركها وهو يبكي بكاءً شديداً. ولما بعد عن الحي أظهر ولهاً شديداً فصبّره رفاقه وأخذوا يعزّونه عنها وهو يلتفت إلى ديارها ويقول:

ألا يا خليليّ اللذين تواصيا

بلومي إلا أن أطيع وأضرعا

فإني وجدت اللوم لا يذهب الهوى

ولكن وجدت اليأس أجدى وأنفعا

قفا إنّه لا بد من رجع نظرة

مصعِّدةٍ شتى بها القوم أو معا

قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى

وقلَّ لنجد عندنا أن يودعا

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا

وما أحسن المصطاف والمتربعا

وأذكر أيام الحمى ثم أنثني

على كبدي من خشية أن تصدعا

وقلت عليكن السلام فلا أرى

لنفسي من دون الحمى اليوم مقنعا

سلام على الدنيا فما هي راحة

إذا لم يكن شملي وشملكم معا

كأنا خلقنا للنوى وكأنما

حرام على الأيام أن نتجمّعا

وحاول رفاقه أن يسرعوا في سيرهم حتى يقطعوا الحيّ ويبتعدوا عن ديار ريّا لعله يعود إلى عقله ولكنه كان مسلوب العقل ذاهل القلب لا يتحدث إلا عن صاحبته ودياره التي فارقها والتي قضى فيها أجمل الأوقات وأحبّها إلى نفسه فينشد:

أقول لصاحبي والعيس تهوى

بنا بين المنيفة والضمار

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

ألا يا حبذا نفحات نجد

وريّا روضه بعد القطار

وأهلك إذ يحل الحي نجداً

وأنت على زمانك غير زار

شهور ينقضين وما علمنا

بأنصافٍ لهن ولا سرار

ومازالوا جادين في السير حتى وصلوا نهر الفرات وهو مازال ينشد:

وأذكر أيام الحمى ثم أنثني

على كبدي من خشية أن تصدعا

فقالوا له: لقد خرجنا من جزيرتنا فدع صاحبتك وانظر إلى نفسك فإنها لو كانت صادقة الود ما تزوجت ولا اختارت عليك. فالتفت إلى الخلف وإلى الرياح الوافدة من ديار ريّا وقال:

إذا ما أتتنا الريحُ من نحو أرضكم

أتتنا بريّاكم فطاب هبوبها

أتتنا بريح المسك خالط عنبراً

وريح الخزامى باكرتها جنوبها

تحية مشتاق إلى أن يراهم

ورجع أماثيل يفدّى عريبُها

فظلوا يواسونه ويقولون له لقد خرجت إلى الجهاد في سبيل الله كي تنساها، وحرام عليك أن تعود إلى ذكراها وأنت قادم إلى لقاء الأعداء ومقارعة الفرسان.

وفي المعركة أبلى الصمة في الحرب بلاءً عظيماً ودلّ على فروسية وشجاعة قلّ نظيرها بين الفرسان فكان مضرب المثل في البطولة والشجاعة. وكان يقاتل قتال يائس لا يرى له مخرجاً من نفسه وكان رفاقه يلحظون أنه يقاتل وهو عنهم ذاهل القلب غافل عما يقولون هل.

وبينما هو ينازل أحد أبطال العدو تذكر ريا فكف عن نزاله، وحاول أن يعود ليرجع إليها، ولكن العدو عاجله بطعنة نافذة فخرّ على الأرض فأسرع إليه رفيق فحمله فإذا هو لا يتحرك، وأصغى إليه رفيقه فوجده يتمتم بصوت خفي:

تغزَّ بصبرٍ لا وجدك لا ترى

نساء الحمى أخرى الليالي الغوابر

كأن فؤادي من تذكُّرِهِ الحمى

وأهل الحمى يهفو به ريش طائرِ

ومازال يردد هذين البيتين حتى هلك.

ووصل خبر موت الصمة إلى أهله فخرجت ريّا مع نساء الحي يندبنه ويبكين فيه الشجاعة والعفة، وبكاه الرجال ورثوه طويلا. ولم تطل الأيام بريّا فقد هلكت حزناً عليه.


د عبد الحميد ديوان 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

‏بنك القلوب بقلم ليلا حيدر

‏بنك القلوب بقلمي ليلا حيدر  ‏رحت بنك القلوب اشتري قلب ‏بدل قلبي المصاب  ‏من الصدمات ولما وصلت على المستشفى  ‏رحت الاستعلامات ‏عطوني ورقة أم...