الجزء الخامس
المصالحة
صباح يوم الجمعة، بدا أهل سحر في حال غير طبيعي، الأب يدور حول البحيرة، ويتمتم بكلمات غير مفهومة.
الأم عيناها مغرقتان بالدموع ولكنها صامتة حزينة.
قالت هدى بصوت جهوري متلعثم: سحر قادمة اليوم الساعة الخامسة، أنا ذاهبة لاستقبالها في المطار، إذا كنتما لا ترغبان بحضورها، ستنام أختي في فندق، وأنا سأمكث معها هناك، وأنتما ستفقدان ابنتكما إلى الأبد، وسيكون موقفكما المتشدد هذا، هو سبب ضياع ابنتكما، عليكما أن تقررا هل ستستقبلانها، أم أبقى أنا معها؟
والدي سحر أرعبتهما فكرة خروج ابنتهما من البيت، وأحسا بخطورة الأمر فعلاً، إذا استمرا بموقفهما المتشدد هذا...
استقبلت هدى أختها وأحضرتها إلى البيت...لا تسألوني أصدقائي كيف تم اللقاء بين الأم وابنتها... أم أرعبتها فكرة أن تفقد ابنتها، وتكون هي سبب ضياعها، واستفاقت من كابوس مرعب عندما وجدت ابنتها في أحضانها... وكانت فرحتها لا توصف... وانهالت عليها بالقبل، والدموع تنهار من عينيها...قبلات حارة، ودموع تتساقط مدرارة...
سألت سحر أين والدي؟
قالت الأم: سيعود بعد قليل...
تأخر الأب عن الحضور، اضطربت سحر وتساءلت ربما والدها لا يريدها في المنزل، وقبض قلبها الخوف، اتصلت بجوال والدها، وقبل أن يجيب قالت له: يا أبي، إذا كنت لا تريدني في بيتك، سأرحل عنه في الحال، سامحني، وعد أنت إلى دارك...
لم يستطع والدها أن ينطق بكلمة واحدة، وأجهش بالبكاء، كان والدها حينها يشتكي على ابنته إلى أبونا ميشيل صديق العائلة...
أخذ الأب ميشيل الموبايل وقال: الحمد لله على سلامتك يا ابنتي، سنحضر أنا وابوك لنتناول العشاء عندكم...
قالت الأم هذا حسن، سنطلب عشاء جاهزا من المطعم، أرجوكما أنتما، افرشا الطاولة، واشعلا الشموع، وضعا عليها الورود، سنجعله عشاء احتفالياً بعودة سحر إلى دارها...
وصل أبونا ميشيل، ووالد سحر إلى المنزل، ركضت سحر، ومسكت يد أبيها قاصدة أن تقبلها، لكنه سحب يده، وحضن ابنته وأجهش بالنحيب، وسالت دموعه على وجنتيه...
التمت العائلة حول طاولة الطعام، وقف أبونا وقال دعونا نصلي، ونشكر ربنا على نعمه الكثيرة، حتى ينير لنا عقولنا لنسلك طريق الصواب...
وأضاف: دعونا نضع النقاط حيث يجب أن تكون: الذي فهمته من أخي أبو سحر بأنكما غاضبان على ابنتكما لأنها اختارت عملاً أنتم غير راضين عنه، وأهملت فرصة عمل في التدريس، لأجل عمل أنتما لا تعرفان له عنواناً...
سامحوني، أنتما مخطئان، أنا مع سحر، ابنتكم بصراحة لم تخطئ، وأنا شخصياً لو لم أكن كاهناً، لكنت بحثت عن عمل مشابه لعملها، اتنقل كل يوم من بلد إلى بلد، من شعب إلى شعب، ومن حضارة إلى حضارة، أجوب العالم، أشعر بطعم العمر، ومشوار الحياة القصيرة.
أخبرتني سحر يوماً بأنها تنوي أن تكون كاتبة، وتكتب عن حضارات الشعوب وتضيف إلى المكتبة مؤلفا جديدا عن حضارات الشعوب...أنتما استخففتما في أفكارها، كنتم مخطئون، وهي تناست الأمر، لكنها لم تنساه. واليوم عندما وجدت وظيفة الطيران. عرفت بأن هذه الوظيفة هي وسيلة تساعدها على تحقيق أحلامها الكبيرة التي تسعى لها ألا وهي الكتابة التي هي غاية رفيعة ومحترمة جداً.
لكن الذي جعلني أعتب على بنتيكما، هو الأسلوب الخاطئ الذي اتبعتاه...عندما اعتمدتا على الخداع، والغاية هنا لا تبرر الوسيلة التي اعتمدتاها...
هذا كذب غير مقبول البتة منكما، وهذا استخفاف بعقل والديكما، تكذبان عليهما، وتدعيان بأن سحر ذاهبة برحلة قصيرة، بينما رحلتها بعيدا خلف البحار... الذي ضخم المصيبة، أهلكم لم يتعودا منكما سوى الصدق. وأنتما كسرتما تلك الثقة، وكان الصحيح أن تجدا وسيلة مقنعة بالحوار...
ربما كان عليكما أخباري بما يجري في داركم، وأنا آتي وأحاول التوفيق بينكم، وإذا أصر والديكما على موقفهما، وركبا رأسيهما، أنا كنت سأقف إلى جانب سحر، لأنها على حق، وأنا بذاتي كنت أوصلتها إلى المطار.
ساد صمت طويل كسره أبونا وقال: دعونا نفتح صفحة جديدة، الصلح هو سيد الأحكام، دعونا نسامح بعضنا البعض، حتى ربنا يسامحنا، وإذا لم نسامح ونغفر لغيرنا زلاته، ربنا لن يغفر لنا زلاتنا...
وطلب أبونا من سحر أن تقبل والديها وتطلب مسامحتها... وكان تبادل القبلات ساخنا بالدموع، وبعد ذلك بدأت تلين القلوب، وتظهر ابتسامات خجولة على الوجوه...
تابع أبونا: أتمنى من ربنا أن يكتب لك النجاح والسعادة في عملك... عقوبة عليك، هلمي أسمعينا مقطوعة لشوبان على البيانو حتى تعود البسمة لقلوبنا...
ثم قال: هنيئاً لهذا البيت الذي نستمع فيه إلى مقطوعات رائعة تؤديها عازفة قديرة، تفرح قلوبنا المتعبة...
عندما اعتذرت سحر عن التعليم، ذاك أحزن الراهبات كثيرا وخاصة (الريسة) على خسارة سحر... وقالت أين سنجد مثل سحر تلبس ثوب الرهبنة بفكرها وقلبها.
كاتب الرواية: عبده داود
إلى اللقاء في الحلقة السادسة
يمكن للراغبين قراءة الحلقات السابقة يجدونها في:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق