الأحد، 18 أغسطس 2024

دخان البنادق بقلم فاخر خالد

(محطات من الذاكرة)

،، دخان البنادق ،،
في منتصف سبعينيات القرن المنصرم ، كان التلفزيون العراقي يعرض مسلسل الكاو بوي ،، دخان البنادق بطولة ،، جيمس أرنيس ،، ولأن ساعات البث والبرامج في التلفزيون آنذاك كانت محدودة جدا ، فكان أي مسلسل يعرض حينها ، يأخذ حيزا كبيرا من تفكير الناس في ذلك الزمن الجميل ، بخاصة الشباب ، بعكس التلفزيون الآن ، الذي أصابته التخمة من كثرة البرامج والأفلام والمسلسلات ، وقتها كان دخان البنادق حديث الشباب ، وأنا وأصحابي ، كنا صغارا بعمر الورد ، تتراوح أعمارنا مابين الثامنة والسابعة ، ولأن التلفزيون في بيتنا تعطل بعد ان عجز المصلح من تصليحه . ولم يستضف التلفزيون بعد في ذلك الوقت ، اغلب بيوتات المحلة ، فكنا نتحرق شوقا لمشاهدة حلقة من هذا المسلسل .
قرب بيتنا ، كانت هناك ،، گهوة ،، فيها تلفزيون ، صاحبها يدعى ، أبو صبيح ، رجل فارع الطول يرتدي ،، الدشداشة والطاقية ،، وكان ،، لأبو صبيح ،، ولد أسمه ،، حسوني ،، كان يدرس معي في المدرسة الإبتدائية ، كان ، حسوني ، يتباهى بحديثه عن المسلسل ، لم تكن علاقتي معه قوية آنذاك ، فقفزت إلى رأسي الصغير فكرة أن أتقرب إلى حسوني ، عله يسمح لي وأصدقائي بالدخول إلى ،، الگهوة ،، ومشاهدة المسلسل عن قرب ، لأن في ذلك الزمن لم يكن يسمح للصغار بالجلوس في ،، الگهاوي ،، فهي مخصصة للكبار فقط ، بعكس هذا الزمن ، الذي ترى فيه الصبيان يملئون المقاهي ، يدخنون ،، الآرگيلة ، وهم يضعون ساقا على ساق ، المهم نجحت الفكرة وفعلا تقربت وأصدقائي من حسوني ، وأصبحنا لانفترق عنه ، إلى أن أقنعناه بعد جهد جهيد ، أن يكلم أبوه ليسمح لنا بالقراءة داخل ،، الگهوة ،، صباح يوم الجمعة قبل أن تمتلأ بالزبائن ، بحجة أن عندنا امتحانات ، لأن المسلسل كان يعرض في يوم الجمعة صباحا ، نجحت الخطة بالفعل ، ووافق أبو صبيح بأن نجلس في ،، الگهوة ،، لكي نراجع دروسنا ، ولأن ، حسوني ، كان من الكسالى في المدرسة ، فقد ساعد هذا الأمر بنجاح الخطة .
 أخيرا سأشاهد ،، دخان البنادق ،، عن قرب ، لم أنم ليلتها ، كنت أنتظر بزوغ الفجر ، وأنا أتقلب على الفراش ، مثل سمكة رمى بها الموج خارج الشاطىء ، وحين أتى الصباح بعد غياب طويل ، جمعت كتبي وتوجهت بحماس المقاتل ، أطرق الأبواب لأوقظ أصحابي ، الذين أتضح أنهم لم يناموا ليلتها ، توجهنا بخطى مسرعة نحو ،، الگهوة ،، لمحنا من بعيد ، أبو صبيح ، بطوله الفارع وفي يده ،، ابريق ماء ،، يرش به أرضية ، الگهوة ، الترابية ، حينها لم يكن ،، الكاشي ،، في متناول الجميع ، كان التراب هو سيد الموقف ، أخترقت أنوفنا رائحة التراب الندي ، ونحن نقترب من ، أبو صبيح ، بخطى متعثرة ، كان حسوني يقف بجواره ليساعده ، وبلسان متلكأ ، سلمنا عليه :
-شلونك عمو أبو صبيح .
- هلا بوية .
بادر حسون بالكلام سريعا :  
- بوية ذولي صدقاني بالمدرسة اللي گلتلك عليهم 
- هلا هلا بيكم وليداتي ، ادخلوا هناك اگعدوا على ذيچ القنفة اللي بالزاوية ، حتى تقرون براحتكم .
كانت ، الگهوة ، خالية من الزبائن لم تحتضن بعد روادها ، ركض حسوني مسرعا لأحضار كتبه ، وجلسنا على الأريكة والفرحة تغمر قلوبنا ، فقد نجحت الخطة كما أردنا ، وبدأنا بطرح الأسئلة بألحاح على ، حسوني :
- ها ، حسوني ، شوكت يبدي ، دخان البنادق ، 
- مو هسه بعد، فد شوية ويبدي ، شبيكم مستعجلين 
كان حسوني يتكلم بشيء من الثقة والإعتداد بالنفس ، كونه أبن صاحب ، الگهوة ، وهو صاحب الفضل في الدخول إليها ، وكنا نحاول جاهدين أن لا نزعجه ، لكن مشكلة ، حسوني ، أنه كان ،، يخن ،، وكانت لديه مشكلة مع حرف ،، الراء ،، حيث كان يلفظه بأنفه ، وكلما تراقص هذا الحرف على لسانه ، تعثر وسقط ، فلا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الضحك ، وكلما علت أصواتنا بالضحك نهرنا ، أبو صبيح .  
بدأ الرواد يتوافدون على ،، الگهوة ،، شيئا فشيئا ، كان جلهم من كبار السن ، وكلما دخل رجل ، كان ينظر إلينا باستغراب ويتساءل :
الرجل : هذولي الجهال شعدهم هنا گاعدين .   
أبو صبيح : ذولي صحبان حسوني باچر عدهم امتحانات وگاعدين يقرون .  
الرجل : أي عفية ولدي أقروا حتى تنجحون ،،
بدأت ، الگهوة ، تستقبل الزبائن الذين يتوافدون إليها ، فسارع ، أبو صبيح ، لكي يشغل التلفاز ، غمرت الفرحة قلوبنا ، لكننا تفاجئنا بصوت القارىء وهو يجود القرآن ، فتوجهنا إلى حسوني بالسؤال بصوت عال  
- هاي شنو ، حسوني ، چا وين ، دخان البنادق ، هذا شو قرآن ، شنو عدكم فاتحة .
- هاي شبيكم هسه يبدي .
فأتانا صوت ، أبو صبيح ، من بعيد . 
- بوية صوتكم شوية . 
حشرنا رؤسنا بين الكتب ، وقطعنا أنفاسنا ، كيلا نواجه بالطرد ، ويذهب كل هذا المجهود الذي بذلناه هباء ، 
مضت فترة قصيرة وبعد إنتهاء الفترة المخصصة لقراءة القرآن في التلفزيون ، وإذا بصوت ، أبو صبيح ، ينادينا : 
- تعالو بوية باوعو على افلام كارتون .  
قفزنا مثل الأيائل الصغيرة على الأريكة التي قبالة التلفاز ، كانت فارغة لم يجلس عليها أحد بعد ، نظرت إلى أصحابي وهمست لهم 
- أگلكم خل نطلب چاي حتى أبو صبيح مايضوج من عدنا .  
حسوني : انتم شايلين فلوس وياكم ، ترى الچاي بعشر فلوس .  
كان سعر إستكان الشاي في ذلك الوقت ،، بعشرة فلوس ،، وبرغم أنني لم أكن أطيق الشاي في حينها ، لكنني دفعت العشرة فلوس مرغما .  
  جمعنا النقود ووضعناها بيد ، حسوني ، الذي قفز مسرعا إلى أبيه .  
- بوية صحباني يريدون چاي وهاي الفلوس 
 - أي بوية روح صبلهم .  
أحضر حسوني الشاي لنا وجلسنا بفرحة نتابع أفلام الكارتون ، بعد قليل ، انتهت فترة برامج الأطفال ، وبدأت ، الگهوة ، تغص بالزبائن ، شيبا وشبابا ، الغريب أن الأريكة التي كنا نجلس عليها ، لم يقترب أحد منها ، فبقينا متسمرين عليها ، أما، أبو صبيح ، فانشغل عنا مع بعض الرجال من أصحابه ، يتجاذبون أطراف الحديث ، إلى أن حان موعد اللقاء الذي انتظرناه طويلا ، ها هو ،، دخان البنادق،، ظهرت مقدمة المسلسل ، حيث البطل وهو يوجه مسدسه نحو رئيس العصابة ، وبسرعة البرق يرديه قتيلا ، لم نتمالك أنفسنا من الفرحة وصرخنا بصوت عال :
- هيييييييييي .  
حسوني : لكم أبوي لايسمعكم .  
خبأت رأسي بين صدري خوفا من أن يسمعنا أبو صبيح ، ثم رفعته بعد برهة لأتابع المسلسل ، نظرت ، لم أرى التلفاز ، وجدت ستارة بيضاء ، تملأ عيني الصغيرتين ، رفعت رأسي أكثر ، وإذا ،، أبو صبيح ،، بصوته الجهوري : 
- يلله وليداتي روحو لبيوتكم هسه أمهاتكم أدور عليكم .  
أحسست بوقع كلماته كالمطرقة على رأسي ، لم أتمالك نفسي وتلألأت في عيناي دمعتان ، فقد ضاع كل المجهود الذي بذلته ، وضاعت العشرة فلوس ، وبصوت متلعثم :
عمو أني بعدني مامكمل الچاي مالي . 
- بوية الچاي من شوكت صبينا ألكم صار ثلج هسه ، يلله اوليداتي حبابين روحو لبيوتكم ، وانت ولك حسوني يلله گبل لامك . 
إنهار كل شيء ، وخرجنا من ، الگهوة ، نجر ورائنا أذيال الخيبة ، بعد أن إمتلأت بالزبائن و انقض الشباب على الأريكة التي استولينا عليها في السابق ، ولم يعد لنا متسع أن نشاهد ، المسلسل ، حتى من بعيد . فقد غصت ، الگهوة بالزبائن . 
لم تفارق هذه الحادثة مخيلتي حتى بعد أن كبرت ، وكنت أتساءل : ترى لماذا منعنا ، أبو صبيح ، وقتها من مشاهدة مسلسل ، دخان البنادق ، هل كان خبثا منه ؟ لكن أعود بذاكرتي إلى الموقف الذي سبق عرض المسلسل ، عندما نادى علينا بفرحة لكي نتابع أفلام الكارتون ، وأعود مع نفسي أتساءل : ترى من أين تعلم ، أبو صبيح ، وهو الرجل الأمي الذي لايفقه القراءة ، أن مشاهد العنف التي يعرضها التلفزيون لها تأثير سلبي على الأطفال ؟
مات أبو صبيح ،، وحضرت جنازته ، لكن الحادثة لم تفارق خيالي .   
مات أبو صبيح ،، ولم يعلم أن ،، دخان البنادق ،، لم يعد مسلسلا ، فقد أصبح واقعا نعيشه ، ينام بحجرنا مثل طفل لقيط ، لانستطيع التخلص منه .  
مات أبو صبيح ،، ولم يعلم أن البنادق أصبحت في متناول الصبيان ، يعبثون بها كالدمى ، ودخانها يستنشقونه كما يستنشقون الوروود الزكي،
وأعود وأتساءل مع نفسي : ترى ، لو كان ،، أبو صبيح ،، على قيد الحياة ، هل كان يقوى على منع الملايين من الأطفال ، من مشاهدة الرصاص وهو يمزق الأجساد ؟ وأنى له ذلك ؟ ومن أين نأتي بالبطل ،، جيمس آرنيس ،، الذي يتباهى بشارة الشريف ، التي يعلقها على صدره ، لكي يقضي على العصابات التي قضت مضاجعنا !
وعندما بحثت ، ولم أتلقى إجابات شافية عن اسألتي ،ولكن الكثير رحلوا بعيدا ، خوفا على صغارهم ، من أن يستنشقوا ،، دخان البنادق ،،

    ✍️فاخر خالد
     اكتوبر/٢٠١٧

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

فى مراقيك الوجود بقلم محمد فضل الله فضل المولى

فى مراقيك الوجود،،،  انست فيك سر الفرح يا اجمل الوجود موعود على شرفه اللقاء بالصعود على مدارج حبك الشهود يغمرنى حنينك سهود حرفك تداعى سناء غ...