مجلة ضفاف القلوب الثقافية

الأربعاء، 3 ديسمبر 2025

المشاكسة بقلم ماهر اللطيف

المشاكسة
بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳 

كانت جالسة في ركنٍ من أركان البيت العتيق، تستمتع بأغنية "مسافر زاده الخيال" بصوت محمد عبد الوهاب، وتترشف الشاي من قدحٍ فخاريٍّ صغير. تسترق النظر إلى أفراد العائلة عبر النور الخافت الذي يضفي على المكان مسحةً من الدفء والرومانسية، فترى كلاً منهم منشغلًا بأمرٍ من أمور الحياة، في زاويةٍ من زوايا ذلك البيت الفسيح الذي يجمعهم.

ولأنها مشاغبة، مشاكسة، مستهترة، فقد ملّت السكينة والهدوء، وسئمت السلم الذي يخيم على البيت في انتظار عودة الوالدين بعد وقتٍ قصير.
لذا خطرت ببالها مكيدة جديدة تكسر بها جمود المشهد ورتابته.

نهضت مسرعةً نحو المطبخ، وبقيت هناك لحظات، ثم عادت وهي تأكل بذور عباد الشمس بنهمٍ شديد وصوتٍ مرتفع، مردّدةً بثقة مصطنعة:
"فعلاً، صدقت كاتبة تلك الدراسة! لن أتوقف عن أكل هذه البذور مجددًا..."

لم يفهم أحد شيئًا من كلامها، لكنهم جميعًا يعرفونها جيدًا، ويعلمون أن وراء كلامها "فخًا جديدًا"، فابتسموا وتغامزوا وسخروا منها، متابعين حركاتها وقد تخلوا عمّا كانوا يقومون به قبل بداية عرضها المعتاد.

قال عمران، الأخ البكر ساخرًا:
– ما الحكاية اليوم، أيتها الحمقاء؟

فأشارت برأسها نافيةً:
– حمقاء؟ أنا فقط من امتلكت المعلومة ولم أشأ احتكارها!

تدخلت شريهان، الأخت المتوسطة، مبتسمةً:
– وما هذه المعلومة يا جلنار؟

أجابت وهي تشير بإعجاب إلى نفسها بسبابتها اليمنى:
– هل تعلمين أن الإقبال على بذور عباد الشمس بانتظام يُنشّط العقل ويُنميه؟
قرأت أكثر من دراسة تؤكد ذلك! كتبها ألفونس هوكس، ومونيكا كابرياس، وهيلاري ستون!
(أسماء وهمية بالطبع، لا وجود لها إلا في خيالها).

تواصل حديثها بإصرار، محاولةً إقناع إخوتها، وهي تأكل البذور بتلذذٍ ظاهر، حتى قال عمران متظاهراً باللامبالاة:

– هاتِ بعضها لأجرب بنفسي.

وانضمت إليه شريهان، ثم إقبال، الأخت الصغرى. عندها رفضت جلنار في البداية بشدة، متظاهرة بأنها لا تريد أن يزدادوا ذكاءً مثلها، ثم وافقت بشرط أن يمنحها كلٌّ منهم شيئًا مقابل خمس بذرات فقط.

أعطاها عمران دينارًا، وقدمت شريهان علبة شوكولاتة، بينما أغدقت عليها إقبال قبلاتٍ كثيرة.

ابتسمت جلنار، ووزّعت عليهم البذور وفق الاتفاق، وهي توصيهم أن يأكلوها قبل عودة الوالدين ليدهشا بذكائهم المفاجئ.

لكن عمران ما إن قشّر البذرة الأولى ثم الثانية حتى انفجر ضاحكًا قائلاً بصوتٍ مرتفع:
– كم أنا غبي! أعطيتك دينارًا والبذور موجودة في المطبخ ومجانية للجميع!

قهقهت جلنار بأعلى صوتها وهي تشير إليه قائلةً:
– أرأيتم؟ أكل البذرة الأولى ثم الثانية فنشط عقله ونما، وتخيلوا لو أكل البقية!

عمّ المكان ضحكٌ صاخب، وتعالت أصوات السخرية والتهم المتبادلة، بعدما اكتشف الجميع أنهم وقعوا مجددًا في فخِّ ذكاء أختهم ومكرها، رغم حذرهم الدائم منها ومن حبكاتها المتقنة.

قال عمران وهو يضحك:
– نحن لا نتعلم أبدًا من تجاربنا! لطالما حذرتنا أمّنا من جلنار ومصائدها التي يقع فيها أدهى الناس وأذكاهم.
أتتذكرن يوم تمارضت وبكت وتظاهرت بالإغماء، فحملها والدي إلى المستشفى ليكتشف أنها بخير تمامًا؟! يومها قالت إنها كانت تحتفل بكذبة أفريل!

انفجر الجميع ضاحكين وهم يستعيدون مغامراتها السابقة، فيما عادت جلنار إلى ركنها هادئةً مطمئنة، تأكل الشوكولاتة، تتأمل الدينار بين أصابعها، وتفكر في الحيلة القادمة حين تجتمع العائلة مجددًا في المساء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق