ألوان كتابية
في جلسة من جلسات المقهى.. كان الحديث المتواصل حول جدليات الكتابة وهمومها..كل منهم يتناول الموضوع بطريقته الخاصة.. ومن خلال تجربته الشخصية.. هناك من رأى منهم أن المرجعية الأساسية في الكتابة هي التجربة التي خاضها عبر مسيرته الحياتية ومنذ أن تبوأ القلم وصار يعانق الحروف والكلمات.. بعض رأى أن الزاد المعرفي المتأتي من القراءة هو المعين الذي ينهل منه الكاتب ليكون وقودا لمداده وبراحا يحلق فيه بأفكاره المتلاحقة والمتلاقحة من خلال تحليلاته العميقة لقراءاته والمستوى الذي ارتقى إليه معرفيا وصار مؤهلا لأن يخوض غمار هذه التجربة العسيرة وإن كانت السبل لهذه التجربة ليست باليسيرة.. وكان هناك رأي آخر يرى بأن الفكرة عندما تحضر.. فإنها تكون جاهزة للإبحار بها في شواطئ الكتابة .. وهي من تقود القلم نحو الوصول للهدف المرسوم والمتمثل في بلورة الفكرة لتكون شيئا آخر غير الذي كان يسرح في متاهات الأفكار المتلاطمة.. يصبح جملة مقروءة تحمل في طياتها الكثير من المعاني والإحساسات المتدفقة من ينابيع الوجدان.. هنا كان الدور على ذلك الصديق الذي ظل يرقب من بعيد ويكتفي بمشاركتهم في حوارهم بالاستماع والإيماء بالعينين.. رغم أنه كان أكثرهم تجربة في ميدان الكتابة وأوفر معرفة وأوسع خبرة ودراية في الحياة عموما.. كان الجميع ينتظر مداخلته... لكنه ظل سارحا بأفكاره لبرهة وكأنه يخطط لمشروع مداخلة من العيار الثقيل!.. أحدهم قال:
ـ يبدو أن صاحبنا (مايدري عليها منين زارقة) غارق في أعماق خياله .. وما نراه أمامنا ليس إلا قطعة من الشحم واللحم!.. أما الآخر فأردف:
ـ كل ما كنا نتناوله في حديثنا كان يتسرب إلى سمع قطعة الشحم واللحم هذه ويختزن في ذاكرته ليخرج لنا بعد حين شيئا آخر.. وإذا كنا نظن أنه غير موجود معنا فنحن واهمون.. إنه كان يغوص بداخل كل منا وهو يدلي بدلوه.. ودليل ذلك هو تحديقه في عينيّ من يتكلم والتفاعل معه من خلال حركة العيون.. لكننا يجب أن نصبر قليلا حتى تكتمل الخلطة التي يعدها لنا ويستعد لتقديمها.. فهو حاليا يضيف عليها النكهات اللازمة ويزركشها بالكريمات الجذابة وربما يغلفها في إطار زخرفي كي يجعلنا في حالة انبهار حال جهوزيتها ونضجها الذي تم على نار هادئة ودافئة في آن واحد !
وهاهو ينتفض من غفوته ويقتحم هذا المجلس برأيه الصاخب الذي طال انتظاره.. وأخيرا نطق تلك الجوهرة:
ـ الكتابة لها ثلاثة أوجه أو حالات.. الحالة الأولى عندما تكون الفكرة حاضرة ومتكاملة .. والقلم مطاوع لها.. آنذاك ينطلق القلم سابحا في رحاب الفكرة ومعانقا بها شواطئ الإبداع محلقا في سماء الخيال.. وتكون المحصلة لوحة ضاجة بالأشياء المزدحمة في آتون الجمال ومرافئ الروعة ومكامن الإحساس.. حينها لن يتوقف القلم عن الكتابة حتى يشبع نهم الفكرة ويستوفي حقها كاملا غير منقوص... جولة واحدة تكفي لتكون الطبخة ناضجة.. الأجواء في الحالة الأولى في أروع ما يكون والقلق والانزعاج لا مكان له... أما الحالة الثانية فتكون فيها الفكرة قد داعبت الوجدان .. لكنها لم تتمكن من الغوص بداخله نتيجة الأمواج المتصارعة من الهواجس والهواجع.. حينها لا مناص من السباحة في هذه الأمواج وخوض غمارها للوصول إلى الضفة الأخرى.. القلم سيكون هو المجذاف المساعد.. حيث يصارع الفكرة ويضغط عليها للانصياع له ومده بالوقود اللازم للحركة.. فيكون حينها الألم ظاهرا بين ثنايا الحروف رغم أن الفكرة قد انصاعت لرغبة القلم وأجبرت على مجاراته حتى الوصول للشاطئ الآخر.. ذلك أنه ومن خلال معاناة السباحة المضنية تولدت أفكار أخرى وانبثقت إبداعات جديدة ساندت الفكرة الأولى أو استندت عليها ليشكلا معا تيارا مضادا يدفع بهما نحو النجاة عند عبور هذه المخاضة... انتهت الرحلة وكان ما نريد ولكن بشيء من التعب والإرهاق الفكري واليدوي! .. أما الحالة الثالثة فهي الأصعب على الإطلاق.. فهي تكون عندما تجد القلم يداعب أصابعك وما من فكرة تداعب خيالك... لكن القلم لن يحيد عن خط كلماته وحروفه حتى من غير نبراس يهتدي به... يبحث هنا وهناك.. يستدعي المواقف .. يستحضر الذاكرة.. يرسل الإشارات لمراكز الإحساس ومراصد الشعور.. يستنزف الأنامل المجبرة على تشكيل ما يرغب في صهره ولكن دون قوالب! .. هنا قد يستغرق الأمر أكثر من جلسة.. لكنها في الآخر ستشكل من كل تلك التناقضات التي مرت بها حوصلة يمكن أن تكون في عداد العشوائيات المرتبة! .. إذ أن ما يمكن فعله حيالها هو محاولة وضع لمسات فنية وأولوان براقة حتى تغطي العوز المعنوي الذي تعانيه.. لكنها على أية حال تنضم لأخواتها لتزيد من رصيد صاحبها الكتابي....
هذا باختصار ما استنتجته من خلال تأملاتي أثناء حواركم.
هذه المرة ....كان الصمت و( التفنيص).. أي التحديق من نصيبهم!
......................................
عمر عبود ـ ليبيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق