تحية عطرة مفعمة بالأمل والتقدم نحو الأهداف السامية
(التنمية المستدامة , جذور إشكاليات وحلول) (المحاضرة 11 )
المركز الدولي للدراسات الفلسفية والإنسانية *سديم*
رماز الأعرج
ه : هل من حروب عادلة ؟
قبل الدخول في خضم الموضوع دعنا نلقي نظرة على معنا مصطلح العدالة في قاموس اللغة العربية لتدقيق المعنى قبل البدء في الرحلة ,
المعجم العربي الجامع :
* العدل : لزوم الحق وعدم الجور (مصطلح)
* العدل : التوسط بين الإفراط والتفريط (فقهية)
* عدل بين المتخاصمين : أنصف بينهما وتجنب الظلم والجور , أعطى كل ذي حق حقه
* العدل , من الناس : من اجتنب الكبائر ولم يصر على الصغائر وتحاشى من التصرفات ما فيه خسة (فقهية)
(انتهى الاقتباس)
هذه بعض النماذج من القاموس العربي اقتباس حرفي , وهنك معني وتصريفات كثر للكلمة كفعل واصطلاح , ولا داعي لإدراجها جميعها , وهذا النموذج المقتبس كافي لحاجتنا هنا في السياق .
من البداية نلاحظ اتساع المعنى , وإمكانية تجيره , واستعمال كلمة عدل في اللغة العربية خاصة واسع ومتنوع , ويستعمل كفعل , و فقهي ومصطلح وكثير وجوده في الاستعمال المجازي والتعبيري أيضا , ولكن في النهاية نرى أن الكلمة في كل أحوالها تستخدم للدلالة على الإنصاف والتسوية والتناصف والمساواة والتوازن , ولكن بالضرورة أن يوضح أي توازن , وأي عدل ليكون المفهوم مكتمل , وفي السياسة والصراعات يدخل هذا المفهوم في أماكن مختلفة عنها في أي كمان أخر , وسنأتي على ذلك في مكانه .
الحرب هي ظاهرة و صراع بشري تاريخي متوارث بين قوى متصارعة على الموارد ومصادر الحياة , وهذا يعني أن الشعب أو أي جماعة في ظل نظام اجتماعي وسياسي غير متوازن تكون معرضة لخطر الجوع والفقر أن لم تمتلك قوة ما لحماية مصالحها , وسبب الحروب الأساسي هو طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المورث الذي لا يحقق التوازن المطلوب في النظام الاجتماعي بشكل عام , مما يجعل المجتمع في حالة صراع مستدام لا يتوقف .
وبذلك تصبح الحروب ضرورة للشعوب أذا اضطرت لذلك , ولكن ليس في جميع الأحوال , والحرب دوما هي بين طرفين مختلفين بالضرورة على قضايا مادية واقتصادية وسياسية مباشرة , وهنا يبرز تضارب المصالح , وما هو المعيار الحقيقي الممكن للكشف عن طبيعة الصراع , وهل الحرب الدائرة في هذا المكان أو ذاك من العالم هي عادلة بالنسبة لطرف معين من الأطراف , أم أن الطرفين في حالة ظلم وضلال , كيف نستخلص العدالة من الحروب وما هي هذه العدالة .
ما هي معاير هذه العدالة ؟
في السياسة للمفاهيم تفسيرها الخاص و العدالة مفهوم اجتماعي وأخلاقي و حقوقي وسياسي أيديولوجي بامتياز , وهذا يعني انه حمال للأوجه , ومعرض أن نجده في سياقين متضادين بين طرفين , وكلا منهما يدعي ولديه الحجة والبينة أن موقفه هو الحق والعدالة , والصراع المحتدم بين أي طرفين سيكون له عدة أوجه , وكلا سيراه من زاوية مصالحه السياسية والإيديولوجية وبناء على ذلك يحدد موقفه من العدل , ومع أي الأطراف في الصراع الحق وبذلك العدل أيضا , هذا من اعقد القضايا في الصراع العنيف والحروب .
وحين تشتعل الحرب , تنهار المنظومة الأخلاقية والقانونية والعرفية للمجتمع , وتسود أخلاقيات ونظام الظاهرة الجديدة وتابعياتها , وبذلك تنهار المعايير المعتادة والدارجة والمضبوطة التي كانت تنظم سير حياة المجتمع , وهذا ما يجعل من المعاير صعبة الآن في هذه الحالة , أي معيار هو الحكم بعد أن انهارت المنظومة الأخلاقية القيمية جميعها , وأصبح منطق القوة والحسم في الميدان هو الحكم الآن .
وفي هذه الحالات يصبح الطرف الأقل قوة هو الطرف الذي سيقدم التنازل , والحلول ستكون حتما على حسابه هو أي كانت , وليس المفاوضات والجهود الدبلوماسية التي تبذل سوى محاولة لإقناع الطرف الخاسر بقبول الهزيمة والتنازل عن حقه المشروع الذي دافع عنه وما زال , ولكنه غير قادر على فرض إرادته على الأرض بالقوة بحكم موازين القوى المتفاوتة , وهنا تتجلى ماهية العدل في المجتمع الغير متوازن والتعسفي , كما هو حال النظام العالمي المعاصر , نظام البلطجة و التنمر وفرض كل ما يريده القوي بالقوة وهذا هو العدل والحق المعترف به دوليا بحسب أخلاقيات العصر الحديث الزائفة .
أن العدل اليوم هو تمثيلية يشكلها القوي المنتصر ويصنع من جرائمه بطولات عدل وإنسانية وأخلاق لا مثيل لها , ويحول حروبه واعتدائه على الآخرين إلى عدل وحق وخير , وانتصار للعدالة , وتنمره واستقوائه على الأضعف منه إلي بطولات وانتصار على الشر , أن العدل في السياسة ليس عدل بل موازين قوى , وصراع مصالح وعقول وتصادم قوى جبارة متناحرة لا تعرف القيم أو غيره بل تعرف مصالحها وغاياتها التي تبرر لها جميع الوسائل حتى وأن كان قذرة ومقيتة ولا أخلاقية .
أن طبيعة الصراع العالمي الحديث أدخل العالم في أزمة أخلاقية مفاهيمية وسياسية متصاعدة وتشكل جزء من الأزمة العالمية المعاصرة , أي أزمة معاير وقيم و تجديد العلاقات البشرية جميعها بما ينسجم والمرحلة الجديدة من التطور العلمي والتقني والرقمي الغير مسبوق , الذي حول العالم إلى قرية حقيقية مفتوحة على مصراعيها بلا حدود .
الحرب دوما مختلف على عدالتها , وكل طرف يدعي عدالة سلوكه وردود أفعاله , سواء كان معتدي أو معتدى عليه في البداية , أو في النهاية الجميع يرى انه على حق ولديه مبرراته القوية و المسندة برؤية وظرف ما ومصالح لحق بها الضرر بشكل أو بآخر .
الخلاصة كما نرى أن العدل في السياسة له معاير مغايرة عنه في مواقع أخرى وهذا الدليل أمامنا في الواقع المعاش ولا داعي للذهب بعيدا لفهم الموضوع بوضوح , ولكن هناك فارق طبعا بين طرف معتدي وطرف يدافع عن نفسه في الفهم العادي المباشر , والطرف المعتدي عليه له الحق في جميع الأحوال الدفاع عن نفسه , ولكن الحرب بحد ذاتها ليس سلوك عادل أو مقبول , ولكن حين تكون مفروضة على احد الأطراف الأمر مختلف حتما بالنسبة للطرف المتعرض للاعتداء , ولكن الحلول في الحروب ليس بالضرورة أن تكون عادلة أو منطقية , بل يفرضها قانون توازن القوة .
في القانون الدولي مثلا في مجلس الأمن الدولي هناك خمسة دول فقط لها ما سمى حق (الفيتو) وهو حق يمنح الدولة المعترضة حق نقض القرار ووقف تنفيذه , وهذا جاء على خلفية الدول المنتصرة في الحرب العالمية , أي حق القوي في أن ينقض قرارات الغير , ووقفها أيضا , وهذا غير متاح للجميع , من حيث المنطق هذا ليس إنصاف ولا عدل , ولكن العدل في الحروب والسياسية وموازين القوى له معاير مختلفة , معاير لا علاقة لها بحقوق الإنسان أو العواطف أو غيرها من المفردات , في الحرب هناك قانون واحد فقط هو قانون القوة والمصالح وحسب .
هنا لا يشمل السياق موضوع مفهوم الثورات الشعبية , والجماهيرية المنظمة بكل أشكالها , بل سياقنا يدور حول الحروب التقليدية ولصراعات العنيفة الخشنة , والحروب في النهاية لا يمكن أن تكون عادلة , ولو كان هناك عدالة أصلا في النظام الاجتماعي والسياسي المعاصر لما شهدنا أي عنف أو حروب , وغياب العدالة والمساواة بين الناس يشكل سبب هام من أسباب الحروب , والعدالة لا تحتاج إلى قوة السلاح والعنف لحمايتها و لترسيخها , بل العدالة بحاجة إلى نظام اجتماعي و وعي جمعي متطور وقوانين معقولة تنصف الضعفاء من الناس وتساوي بين جميع البشر .
إن مفهوم العدالة السياسي المعاصر الممارس في التطبيق من أكثر المفاهيم السياسية المعاصرة التباسا , وله الكثير من المكاييل المتباينة في الممارسة والتطبيق , التي تستخدم بحسب المصالح وطبيعة الظروف والأزمة وتوازنات القوى , وطبيعة الصراع ومن يديره من الخلف , ولم تعد اليوم من حروب بلا إدارة خلفية وتجارة وبلا تحالفات خارجية بعيدة دولية وإقليمية , وبذلك تصبح الصراعات خارجة بالكامل عن مفهوم العدالة الدارج والمعروف , وهذا يعطينا الدليل القاطع أن لا عدالة في الحروب ولا عدل إلا بالسلم والوعي والمنطق والقانون والتشارك بين الشعوب وتقاسم الثروات بينها بدل الصراع المستدام عليها , وحماية الطبيعة والبيئة والحياة بشكل عام .
إن العدل الحقيقي في عرفنا واضح و معروف , وأي مشروع مضر ومعيق لأهداف التنمية المستدامة هو مشروع غير عادل , ومفهوم العدل الحالي في الفهم السياسي والسياسة العالمية ذات المكيالين هو باطل , و مزين يثوب العدل و الحق بالكذب والخديعة و بالعنف والقوة والغطرسة , ولا يوجد أي منطق غير ذلك حتى اليوم يضبط الواقع الدولي الحالي المضطرب والمستدام الأزمات , بعد ثبوت فشل وعجز الأنظمة السياسية المعاصرة جميعها عن وضع الحلول المنطقية المقبولة لحياة البشرية وأزماتها المعاصرة المستدامة والمتصاعدة , مما يعني أنها غير جديرة ولا مؤتمنة لا على إدارة المجتمع وحياته ولا على الطبيعة والحياة على كوكب الأرض .
*سديم*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق