مساء الجمال والفن والحكمة
*فنجال* فلسفة الفن والجمال ,,
فلسفة (الشيفرة الكونية) فرع الجماليات
رماز الأعرج
( ,المحاضرة 20,)
3: الجمال والوعي الإنساني والاجتماعي:
للجمال أشكال وجود متعدّدة ومختلفة ومستويات من التطور تختلف باختلاف مستوى الظاهرة، وعلى الصعيد الذاتي للجمال يتعقّد هذا المفهوم ويتنوّع كلّما ارتقينا في سلّم التطوّر الإدراكيّ للكائنات الحيّة المدركة للجمال، والتي يشكّل الإنسان أرقاها على حدّ معرفتنا، والجمال في المستوى الإنساني من التطوّر له خصوصيته المعقدة بتعقيد الإنسان ذاته والمجتمع، وبذلك ينتقل الجمال هنا من الواقع الطبيعي إلى واقع اجتماعي عقلاني، وتطوّر ومجرّد وقادر على التمييز بين الأشياء وذاته بشكل مجرد، وتركيب الأشكال ذهنيّاً قبل تنفيذها وإنتاجها كقيمة جمالية، وبذلك أصبحت قيمة جمالية اجتماعية منتجة اجتماعياً وليس طبيعياً، و يتمّ استهلاكها واستعمالها اجتماعياً وليس طبيعياً، مما يعطيها طريقة وطقوساً معينة في الإنتاج والتذوّق والتفاعل معها.
مع وصول الجمال إلى مستوى الوعي الإنساني أصبح بالضرورة أن يأخذ منحىً آخر عن الجمال الطبيعي المعروف، وأصبح الفن هو مصدر الجمال الأساس الإنساني، إلى جانب الحفاظ على مصطلح فن الطبيعة في العصر الحديث والمعاصر، بحيث تمّ أخيراً ولو كان يعتبر تعبيراً مجازيّاً يعترف بفن الطبيعة، حيث يطلق البعض على تشكيلات الطبيعة الجمالية(فن الطبيعية) وهذا مؤشّر إيجابيّ على انفتاح الفكر الإنساني أخيراً على وعي الطبيعة والاعتراف ولو ضمنياً بمنتجات الطبيعة ضمن نطاق معين بأنها أصل ومصدر الجمال والفنون جميعها في نهاية المطاف، وهذا من أهم المقدمات الضرورية لتفهم الوعي الجمعي الإنساني لحقائق الوجود والكون، من حيث أصله، والإنسان ووجوده وأصل هذا الوجود، ومن خلاله إلى فهم الجمال والظواهر الإستطيقية فهماً علمياً مستنداً على الواقع ذاته وليس على ما خُطّ في الموروث الإنساني القديم والمعاصر، بحيث الواقع هو المرجع لكل ما لدينا من معلومات نظرية، وترك كل ما لا ينطبق مع الواقع ووضعه خارج الاستعمال المباشر والحفاظ عليه كتجربة قديمة سالفة تاريخية تتعلم منها الأجيال.
إن الجمال يشكل جزء أساساً من الوعي الإنساني، والشخصية الإنسانية، وقد اتّضح لنا في النقطة السالفة مدى اهتمام الإنسان بالجمال وتعلّقه به لدرجة جعلت من الإنسان يصنع لذاته شكلاً مختلفاً عن ما فطرته عليه الطبيعة، فقصّ شعره ولوّن جسده ورسم عليه أشكالاً رآها جميلة في بيئته المحيطة، ولا ننسى أن الإنسان أصلاً مثله كمثل باقي الحيوانات، منتجٌ للجمال بفطرته وعلى طريقته، ومع تطوّر الدماغ ونشوء الوعي انتقل مفهوم الجمال وتذوّقه إلى مرحلة جديدة لم يكن لها مثيلٌ سابقاً، وبذلك ظهر شكل جديد للجمال ومنتجاته، وهو الجمال المُعقلَن الواعي لِما يقوم به مع الحِفاظ على البُعد الفطري للجمال الأصيل، حيث اعتبرت الطبيعة وجمالها هو المرجع والمعيار الجمالي والفني، وقد اختلف الفلاسفة حول هذا المفهوم، أي أن الطبيعة هي مرجع الجمال، وظهرت نظرية المحاكاة الأفلاطونية، ورغم ذلك اعتبر أفلاطون جمال الطبيعة ليس سوى خيالاً منعكسِاً للجمال الحقيقي الثابت (المثل الفكرة) حيث أن الجمال الفكرة هو الثابت الوحيد عند أفلاطون ومن سار على دربه لاحقاً من مثاليّين.
شكّل الجمال الطبيعي المرجع الأساس للجمال في غالبية الأحوال، ورغم ظهور اتّجاه في المسيحية الأيقونة الشرقية، وفكرة أفلاطون حول الجمال الطبيعي، وظهرت أيضاً المفاهيم الجمالية الإسلامية متأثّرة بأحدث أفكار عصرها وبيئتها المحيطة، وكانت من أبرزها المسيحية التقليدية الشرقية، حيث كان رسم الأيقونة قد ظهر وتبلوَر بكل وضوح.
أثّر ذلك في الجماليات الإسلامية، حيث اعتبر الحرف والتجريد للأشكال الطبيعة وتحويلها إلى زخارف وأشكال هندسية ولكنها في النهاية من أصول طبيعية ولها وجودها الأصيل في البيئة المحيطة، مهما جرّدت وتمّ تصميمها بطريقة تتلاءم مع شكل الحروف أو العكس حيث تم إخضاع الحرف ذاته إلى الشكل الجمالي الطبيعي الأصلي، وبذلك تعدّدت أنماط الخط والكتابة العربية.
ورغم المرحلة الجديدة الذي انتقل إليها الجمال إلا أنه بقي غير قادر على تجاوز الطبيعة سواء من حيث المعيار والمرجع أو من حيث العناصر والابتكارات الجمالية والفنية، فجميع مبتكرات الإنسان الفنية التي أنتجها وسينتجها هي ذات أصول موجودة في الطبيعة، ولكنها كانت في مسار مختلف حيث كانت خارج صياغة الوعي الإنساني لها، ولكن الوعي قد نقلها إلى عالمه المجرد القادر على التقاطها وإعادة صياغتها في سياقه ورؤيته الجمالية، وكأنّه يعيد تشكيلها من جديد ولكن بوعي عالي التعقيد وبشكل مجرد، وهكذا وضعت الأشكال الهندسية الزخرفية وأصبحت أشكال مجرّدة تستخدم في الزخرفة وتشكل بديلاً للشكل الأصلي الموجود في الطبيعة.
إن الفن يشكّل جزء من الوعي البشري وأصبح هو التعبير الجمالي عند الإنسان في كافة الأحوال، وأصبح بحكم تعقيد إنتاجه عملية اختصاصية لا يتقنها إلّا القليل من الأفراد، ولم تعُد كما هي في الطبيعة، حيث أن النوع بكامله يمارس إنتاج القيمة الجمالية، كغناء الطيور مثلاً، فجميع الطيور تغرّد وتتقن التغريد الجميل لنوعها ولا تحتاج إلى اختصاص ودراسة حتى تنتج الجمال، رغم الفوارق في الأداء بين طير وآخر، بينما لدى الإنسان فإن إنتاج الفن المعترف به يحتاج إلى خبرات وتدريب وتعليم، حيث وصل إلى مستوى من التعقيد ليس من السهل إنتاجه بمجرد الفطرة والغريزة والموهبة أو الملَكة الفنية والرغبة.
إن الوعي قد أنتج الجمال المجرد(الفن) وهذا الأخير قد ساهم بدوره في تطوير الوعي البشري وتطوّره من خلال الممارسة والاستعمال للجمال وإنتاجه وتذوّقه، وهكذا تطوّرت العلاقة بين الوعي والفن وراح كلٌّ منهما يشكّل الآخر ويساهم في تطويره، من خلال التفاعل والإنتاج والتذوق، وبذلك أصبح الجمال جزء من الوعي الإنساني الاجتماعي، وبشكله الجديد الواعي الذي أصبح خاضعاً لمعتقدات وقيم ومفاهيم اجتماعية جمالية أصبحت تشكل شبه قاعدة لمفهوم الجمال والفن لدى الإنسان الواعي والعاقل.
سديم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق