الأَلّمْ و اللّذَة
الألم واللذة ، هذان ضِدّان ، حيناً يتنافران ، وأحياناً يقود أحدهما إلى الآخر ، وفي أحيان أخرى يلتقيان ، لكنهما في كل الأحايين حقيقتان قائمتان في حياة الإنسان ، فهو لا ينفكُّ يوجّه كل سلوكاته انطلاقاً من علاقته بهما ، إنه يسعى في كل سكناته وحركاته وتصرفاته إلى تجنب الألم أو تحقيق المتعة ، وكثيراً ما يضطر لتحمل الألم في نشدانه لمتعة معينة ، أو يتنازل عن متع متعددة تجنباً لآلام قد تترتب عليها ، سواء أكانت تلك الآلام جسدية أم نفسية ، أو كانت تلك المتع حسية أم معنوية .وإذا استطاع الإنسان أن يرتقي ليتجاوز إحساسه هو ذاته بالألم ، فيحسُّ بألم الآخرين، ويتجاوز شعوره هو بالمتعة ليشعر بسعادة الآخرين ، فتلك هي الرحمة ، إنها تألُّم لألم الناس ، وسرور ببهجتهم ، وسعيٌ لتجنيبهم الآلام ، وإزالتها إن هي وقعت عليهم ، وعملٌ على تحقيق الراحة والسعادة لهم .ما هي الرحمة ..؟الرحمة رِقّةٌ ، ورأفةٌ ، وعطفٌ ، وحنان ، ورفق ، وجوهر هذه المعاني جميعاً تلك العاطفة القادرة على أن تجعل من ألم الناس جزءاً من ألمنا ، ومن فرحهم جزءاً من فرحنا ، بل تتعدى تلك العاطفة شعورنا بالإنسان ، الى الإحساس بأوجاع الحيوانات التي تتألم هي الأخرى ، ولا تدرك كُنْهَ ألمها ولا سببه ، ولا تملك عدد الخيارات التي يملكها ابن آدم في تجنب الآلام ومعالجتها . ولا أدري إن كنت مبالغاً لو قلتُ إن من يملك الرحمة ، يفيض شعوره هذا حتى على النباتات ، وعلى البيئة من حوله ...! بين الرحمة والقسوة ..الرحمة ضد القسوة ، والقسوة عنصر أساسي يدخل في تركيب العنف بأشكاله وصوره وأدواته ومجالاته ، صحيح أن للعنف أسباباً نفسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ، لكننا لا يمكن أن نتصور وقوع أي شكل من أشكال العنف إلا مترافقاً مع القسوة ، فسواء أكان العنف جسدياً أم نفسياً ، وسواء وقع على الطفل أم المرأة أم الخادمة أم أي إنسان ، أو حتى لو وقع على الحيوان أو البيئة ، وسواء وقع ذلك العنف على النفس أم الجسد أم الحرية أم الكرامة أم الممتلكات ، واتخذ شكل الضرب أو الشتم أو القتل أو التعذيب أو الإرهاب أو الإبادة أو التخريب ، فإنه - أي العنف - لا يقوم ولا ينوجد ولا يتحقق إلا مترافقاً مع القسوة ، فغياب الرحمة شرط لكل عنف .لا رحمة مع الكراهية والتعصب ...وتزداد الرحمة في حال المحبة ، حيث لا يمكن تصور محبة حقيقية تخلو من الرحمة تجاه من نحب ، لكن المحبة ليست شرطاً للرحمة ، فالرحمة تتسع حتى لمن لا نُكِنُّ لهم أية مشاعر ، بحيث نحس بآلامهم وأفراحهم ، بعيدين كانوا أم قريبين ، متوافقين معنا أم مختلفين، مبغوضين لدينا أم محبوبين . كما تنمو الرحمة في ظل التسامح ، وتضمحل إذا ساد التعصّب، لأن التعصب يدعو من تلقاء ذاته إلى التقليل من شأن الآخر ، والإنقاص من كرامته وإنسانيته ، ويخلق للقسوة تبريرات متعددة .جوهر الرحمة ..جوهر الرحمة هو الإحساس بأن ألم الآخرين يماثل ألمنا ، وفرحهم يشابه فرحنا ، نعم، جوهره هو الشعور بأن المادة التي تتكون منها دموع طفل يبكي جوعاً في افريقيا هي ذات المادة التي تتكون منها دموع أطفالنا ، وأن حاجات الناس الأساسية متشابهة ، وأن حرمانهم منها يخلق لديهم ذات الألم ، حتى لو اختلفت ألوانهم وأصولهم ومشاربهم وعقائدهم ومذاهبهم . وفي كل الأحوال ، يصعب تصور وجود الخير في أي جانب من جوانب الحياة البشرية كلها حين تغيب الرحمة .
دكتور/ عبدالعزيز الرميلي النعمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق