الجزء الثالث
دخلت سحر إلى مخدعها والفرحة تملأ كيانها، لمَ لا، أخيرا وجدت حلمها التائه...
أحضرت حقيبة أوراقها، كي تجمع أوراقها الثبوتية اللازمة لتقدمها إلى ديوان شركة الطيران، مستندات، صادفت صورا أعادتها إلى البعيد، مذ كانت طالبة في المدرسة والجامعة.
آنذاك كانوا يصفونها بأنها من أجمل البنات في الجامعة،
حاول عديدون من الطلبة أن يكسبوا ودها، لكن لم يسترع انتباهها أحد منهم، هي لم تكن تفكر في الارتباط مع أي كائن قبل أن تنهي دراستها وتحصل على مرتبة تخرج مشرفة...كان عقلها هو الحارس الصارم، ومدير أعمالها، وهو حامل مفاتيح قلبها...ولم يكن يسمح بفتح بوابة السجن اطلاقاً.
تخرجت سحر في الجامعة بمرتبة امتياز، عرض عليها العميد أن تعمل موظفة في الكلية، مساعدة أستاذ، لكنها رفضت العرض كرها في الارتباط (وروتين) العمل.
رأت بين صورها البيانو الكبير، هدية أهلها بسبب تخرجها في الجامعة. وذكريات كثيرة أفرحتها...
تذكرت عندما تقاعد والدها من العمل، مكث في البيت، ولم تعد صحته تساعده كثيرا على قيادة سيارته، لذلك سلم العربية إلى سحر وأصبحت هي السائق الشاطر في المنزل...
وكم أسعدتها تلك السيارة، لأنها كثيراً ما كانت تأخذ رفيقاتها وأختها ويذهبن إلى مقهى مطار دمشق الدولي تجلس هي بجانب النافذة المطلة على مدرج المطار، تراقب بشغف اقلاع وهبوط الطائرات... كانت تلك الجلسات في المطار من أجمل نزهاتها وأمتعها
ومنذ تخرجت وهي تبحث عن عمل يرضيها ولم تكن تعرف ماهيته، أين تجده، حتى لحظة قراءة إعلان شركة الطيران التي تطلب مضيفات جويات. أدركت بأن هذا هو العمل الذي يرضيها ويشبع هواياتها وتعيش سعادتها...
نظمت أوراقها الثبوتية المطلوبة، وذهبت إلى إدارة الشركة، وتقدمت بطلب التوظيف...وأخفت الأمر على أهلها وأختها طالما هم فرحون بأن ابنتهم قد تعينت معلمة في المدرسة التي تعلمت فيها.
نجحت بامتياز في فحص المقابلة، وقد ساعدها إنها جامعية، تتقن اللغة الفرنسية جيداً، إضافة إلى الإنكليزية، والعربية طبعًا...غير ذلك هي ذكية جدا، جميلة جدا، أنيقة، ومثقفة...
قالوا: سنستدعيك قريبا عبر جهازك الهاتفي.(الموبايل)
جاءت إلى المنزل والفرحة تملأ قلبها... وتصورت بانها تحمل البشارة القنبلة التي ستفرح قلب أهلها...كانت ترقص وتغني وتقول اليوم هو عيد ميلادي، يوم فرحتي ومناي، هذا هو اليوم الذي صنعه لي الرب، وأنا أنتظره وكنت لا أعرفه، جاءني على حصان أبيض. نظر إليها أهلها باستغراب ودهشة، وانتظروا ابنتهم أن تبشرهم بالفرحة...
وبعد الحاح اخبرت أهلها بالعمل الذي تتمناه... مضيفة طيران، وهنا جن أهلها، بأعلى درجات الجنون... ماذا تقولين مضيفة؟ تعملين مضيفة طيران، أهذه هي المهنة السخيفة التي تبحثين عنها منذ سنتين؟ هل أنت تبحثين عن الضياع في شوارع العالم؟ هل أصبحت مجنونة لهذا الحد؟ كيف يخطر ببالك مثل هذه السخافات، مضيفة طائرة...يا للمصيبة...
قال أبوها هذا هو المستحيل، هذا لن يحدث، طالما أنا على قيد الحياة...وسحر تعرف بأن كلمة والدها قاطعة نهائية.
وقالت أمها لن أكون أمك، ولن تكوني ابنتي، إذا استمررت في هذا المستحيل... سيصبح نهارك ليلاً، وليلك نهاراً، عندما تطيرين في الجو، لن تغفو أجفاننا حتى تعودين، وعندما تعودين نخاف أن تطيري ثانية...هل تتركين عمل مدرسة في المدرسة العظيمة بجانب بيتك، معززة مكرمة لتعملي خادمة طائرة، وهل هذه وظيفة؟ كيف يخطر على بالك مثل هذا العمل؟ وهل هذا يعتبر عمل أصلا...
دخلت سحر وأختها غرفتهما، قالت هدى أنا معك، وأتمنى أن ألقى مثل هذه الوظيفة، إنها تمثل وجه سورية السياحي الجميل...
تنفست سحر الصعداء، لأن أبويها اشعراها بأن الذي أقدمت عليه ذنبا لا يغتفر...
سحر أقفلت الموضوع، وتناست أمر ذاك المستحيل، خشية مصيبة مرضية تصيب أحد والديها.
بعد أيام رن هاتف سحر، قالوا لها عليك الحضور حتى تطيري مع مضيفات أصيلات، وتتعرفي على طبيعة العمل بصفة مضيفة متدربة...
أجهشت بالبكاء، لا تقدر أن تواجه أهلها، وإن لم تذهب ستفقد عملاً شعرت بأنه أجنحة طيرانها إلى سعادتها.
قالت لها أختها، اذهبي إنها حياتك، هل يجب علينا أن نعيش بعقلية أهلنا...اذهبي وأنا سأتولى اقناعهم... هدى يعرفونها حكيمة بتصرفاتها، متزنة، مثقفة، وراقية... وهي التي شجعت أختها على الالتحاق بالوظيفة.
أخبرتهم سحر كذبا بأنها ذاهبة في رحلة قريبة مع زميلاتها، وهي التي لم تكذب يوماً على أهلها... أوصلتها أختها إلى المطار...وطارت فوق السحاب، لكن فرحتها مجروحة في الصميم، وقلبها حزين لدرجة التعاسة... تأخرت سحر في عودتها من الرحلة المزعومة، سأل أبوها ألم تعد سحر من الرحلة بعد؟
قالت هدى: بصوت خافت متقطع وهي تتأتئ في كلامها ترتعد سحر الآن في باريس...ستعود يوم الجمعة.
الكاتب: عبده داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق