•••
وجبة غداء
بقلم:خالد القاضي
🌼🌼🌼🌼
يلوك اللقمة كأنه يلوك قطعة ورق إقتطعها من جريدة صفراء ...يابسة تلك اللقمة، بسبب جفاف فمه وحلقه وعدم رغبته في الطعام أصلًا ،رغم جوعه الشديد، كان يحاول إنزالها بجرعة ماء طعمه في أول الصباح على بطن خاوية يشبه طعم الهُراء في الصباح الباكر ...
ترك طعامه البايت من الليلة السابقة، و المكون من قطعة خبز باردة، دهن عليها واحدة من ذلك الجبن المثلث، كان إفطاره بارد جاف ،كأيامه تلك..
القى سترته على جنبه متدلية خلف ظهره كالمشنوق ،ليس له رغبة في إرتداءها ، ووضع هاتفه الجوال في جيب شميزه ،وخرج من شقته ، دون غسل وجهه ،لم يجشم نفسه عناء التطلع في المرآة ليمسح حتى بقايا النوم المترسبة في زاويتي عينيه المحمرتين كعفن الأيام ،ولم يسرح شعره المتناثر ااشبيه بحديث الحمقى الذي لا قيمة له ولا نتيجة تُرجى منه ، مجرد ثرثة سخيفة كالإعلانات الكثيرة عن منتج ردئ لا يحمل من قيمة تذكر إلا كثرة ما يدره الإعلان من عائدات لشركات الدعاية والإعلان ...
لفحته نسمات الصباح الأولى الباردة ولكنه لم يشعر بالإنتعاش كعادته ، وهو يخطو على رصيف الشارع، بحذاءه المتآكل الأطراف، والذي أصبح لونه أشبه بالرمادي منه إلى الأسود ، لم يهتم بربط خيط بقايا الحذاء ،فكان يجرجرالخيط خلفه كمن حكم عليه بالسحل ....
وكمي (شميزه) يرفرفان كراية الإستسلام البيضاء عند كل خطوة يخطوها، فلم يقم بتزريرهما ..كان بكل المقايسس في حالة رثة جدًا...
عبر الشارع الإسفلتي المتاكل نحوالجهة الاخرى حيث تقبع المؤسسة التي يعمل فيها ،محتلة معظم الشارع ولم تكن ببعيد عن شقته التي يسكن فيها ،عبر الشارع دون أن ينظر لأي جهة فيه مخالفًا قوانين المرور والسلامة، فتصاعد دوي إطارات سيارة حين ضغط سائقها على الفرامل ،توقفت بعيدًا عنه بقليل ،كادت أن تصدمه وشعر هو بإرتباك وخوف ،وأطلق سائق السيارة الغاضب صوت نفيرها العال، مختلطًا بسباب كثير وقد مد رأسه خارج نافذتها محمر الوجهه وهو يشير بسبابته ،نظر إليه وهو يكمل عبور الشارع، مبتسمًا إبتسامة جوفاء سخيفة كمن يقول له ( عليك اللعنة لم أذق طعم النوم منذ ٣ أيام إلا سويعات تقيني شر الجنون .. لذلك عليك أن تنتبه أنت لما أمامك وتقود بسرعة أقل ) ...
وصل أخيرًا إلى مكتبه دون أن يلقي التحية الصباحية مع إبتسامة أنيقة واسعة ، وبعض الدعابات على أي موظف أو عامل في المؤسسة قابلهم في طريقه، كما هي عادته، فتح باب المكتب ودلف إلى الداخل ، وألقى نظرة عابرة على مكتبها في الجهة المقابلة لمكتبه ، لم تكن قد حضرت بعد ...رمى بنفسه على مقعده كمن يرمي بنفسه من عال ،وفتح لابتوبه وأخرج أوراق عمله من درج مكتبه بيد مرتجفة ...ذلك الجوع القاتل يكاد يقتله فعلًا ....وحريق شديد يعتري عينيه يزعجه كثيرًا، من قلة النوم وكأن مسحوق غسيل قد دخلهما ...ودخل الفرّآش المسن إلى المكتب في تلك اللحظة وهو يهتف مبتسمًا :
-صباح الخير يا أستاذ (بليغ )...
-صباح الخير يا عم (عطية)...
رد بصوت واهن أشبه بالهمس ...
تأمله الرجل الستيني الذي علت وجهه الحليق التجاعيد والنمش ، أصلع الرأس إلا من فودين أشيبين ،يرتدي ملابسه رمادية تشبهه كثيرًا ، علتها التجاعيد كثيرًا ... إبتسم العم عطية برأفة وحنان مخلوط بالسخرية ..وكان يمسك مكنسته بإحدى يديه ...
وسأله :
-هل تناولت إفطارك يا ولدي أو أحضر لك إفطارًا من مَقصِف المؤسسة؟؟!!...
نظر إليه بوهن وقال هامسًا من بين شفتين متشققتين، وهو يداعب قلمه الذي أخرجه من جيب سترته التي القاها على مكتبه بإهمال :
-انت تعرف أنها غيرموجودة يا عم عطية ، منذ أربعة أيام وهي حانقة في بيت أبيها ...حاولت إرجاعها ولكنها رفضت رغم إلحاح والدها ووالدتها عليها بالعودة فالأمر لا يستحق كل هذا ...
إقترب منه العم عطية، وربت على كتفه وقال له مبتسمًا كالمداعبة:
-يا ولدي بنات اليوم مثل الآيسكريم تذوب بسرعة وتحتاج إلى جو مناسب من الملاطفة حتى لا تذوب ،وهن سهلة الكسر، وإذا لحست منها أو أكلت كمية كبيرة ،أوجعت أسنانك وجمدت فمك، وألهبت لوزتيك ، وقد ترمي ما قضمته من فمك، وإذا ضغطت عليها بشدة تفتت، عليك فقط أن تأكل من الآيسكريم بطريقة هينة وخبرة جيدة لتتلذذ به ، ويدوم معك أكبر وقت ممكن ،
لو أنك إشتريت وجبة الغداء التي طلبتها منك قبل أربعة أيام لأنها قالت أنها مرهقة من العمل ولا تقوى على إعداد الطعام ، كما أخبرتني أنت، بدلًا من العناد والثورة والصياح الذي قمت به ، لما حدث ما حدث ، لأنها موظفة مثلك وتساعدك بمصاريف البيت والإيجار ،غيابها عنك ٤ أيام كلفك الكثير من المال في عدة وجبات وكذلك أصبَحت حالك مزرية جدًا ولا تسر العدو ناهيك عن الصديق ...
طأطأ الشاب رأسه وهو يهمس :
-صدقت يا عم عطيه ...إنه الشيطان ...لعنه الله وأخزاه ...
دعك منها الآن ..أشعر بجوع شديد جدا ..لو سمحت أحضر لي ما آكله وسوف آحاسب المقصف حين أخرج ...
-حسنا يا ولدي ...
وهم بالخروج حين دخلت هي المكتب متهالكة الخطى ليلتقيا عند باب المكتب ...كانت ساهمة النظرات، الواضحة من فتحة برقعها ....فهتف العجوز متهللًا ومهللًا:
-صباح الخير إبنتي.. أشرق المكتب بوصولك...كنت أخشى عدم حضورك...
قالت له بصوت واهن مصحوب بتنهيدة متعبة، وهي تنظر مختلسة نحو الشاب المتشاغل عمدًا بكتابة ركيكة على اللابتوب متظاهرًا بعدم الإهتمام :
- كنت أنوي فعلًا عدم الحضور ..لأني لم أنم منذ ثلاثة أيام إلا قليلٍا وأشعر بإرهاق شديد جدًا لكني خفت من الخصم ...
أفسح لها العم عطية الطريق لتدخل مجرجرة خطواتها بكسل و تسحب حقيبة يدها جوارها على الأرض، والعجوز يتابعها بنظراته مبتسمًا ، وهو يكتاد ينفجر ضاحكًا ..ثم بدأ ينقل نظره بينهما وإبتسامته تزداد إتساعًا ،وكليهما يتظاهر بالإنشعال عن الآخر رغم إختلاس النظرات السريعة بينهما ...
حين هتف به الشاب وهو ينظر إليه بضيق وكأنه فهم ما يجول في نفس العجوز الماكر:
-ألا زلت هنا ..أين الإفطار يا عم (عطية)..
-هاه ...حاضر ...حاضر يا بني...
وخرج ولكنه لم يستطع أن يكبت ضحكته التي أفلتت منه وهو يسير في الرواق متجهًا نحو المقصف...
وعم صمت مطبق على المكتب ..إلا من صوت السيارات والباعة المتجولين في الخارج...
مرت اللحظات ...ونظر إليها خلسة وكانت هي هذه المرة تنظر إليه دون أن ترفع نظرها عنه ...فما كان منه إلا أن بادلها النظر ...وامتلأت عيناه بالدموع ...وطفرت فعلًا دموعه تتدفق على خديه بصمت ، فراعها ذلك، ورآها تنهض من خلف مكتبها وتتجه نحوه بخطوات سريعة مرتبكة أشبه بالعدو وهو ينظر إليها صامتًا والدموع تنساب بغزارة ..وهي كذلك كانت دموعها تبلل برقعها ...وصلت إليه أخيرًا، ومدت يدها تمسح دموعه بحنان ..وهي تقول بصوت مختلج منهدج :
-هون عليك يا حبيبي أرجوك لا تبكي ..أنا اعتذر ...أعتذر بشده وأعدك أن لا أكرر هذا الخطأ مرة أخرى..
إتجهت نحو الباب وأغلقته وعادت نحوه ، فقام هو وضمها بحنان ...
ودخل عم عطيه في تلك اللحظة..ووقع منه السندوتش على الأرض وكاد يسقط كوب الشاي لولا أن تمالك نفسه وهو ينظر إليهما، في تلك الحال وقد إتسعت عيناه ، و يهتف وقد إحمر وجهه وقد إرتد على عقبيه للوراء وأنطلق تاركًا السندوتش على الارض:
-اعتذر ..اعتذر ..اعتذر...اعتذر...
حتى إختفى صوته في آخر الرواق...
في حين كانا قد جفلا من دخوله في تلك اللحظة ..وحين فر وهو يردد تلك الكلمة نظر هو نحو زوجته وهي تنظر إليه ودوت منهما ضحكة هستيرية ...
والتقطت الساندوتش من على الأرض ومسحت الغبار من عليه وقسمته نصفين لها ولزوجها ..
وجلست على المقعد أمام مكتبه وأخذا يتغازلان ويأكلان ، ويضحكان ، ويتشاكيان الفراق وما فعل بهما ، حين قالت:
-سوف أستأذن من المدير و أذهب لجلب ما أغراضي من بيت أبي وأعود إلى شقتنا، لأعد لنا وجبة غداء فاااااخرة حتى تعود من هنا حبيبي...
وغادرت بعد أن ودعته بحنان ..في حين ذهب عنه هو كل ذلك التعب والخمول ..والحزن والتعاسة ...
وعمل بجد طوال فترة الدوام، وكان العم عطية يحظر إلى المكتب ويطل عليه من بابه ويضحك وينطلق لمزاولة عمله ...
إنتهى الدوام بالكاد وكأنه الدهر بأكمله ...
جمع أوراقه و أغلق لابتوبه ..وهم بالمغادرة حين رن هاتفه الجوال أخرجه من جيب شميزه ..كانت هي المتصلة شعر بقلبه يخفق بشدة وبحنان وحب كبير يملأ كيانه تجاهها ...من المؤكد أنها تريد إستعجاله على الغداء فهي في شوق كبير له الآن ..تحلب فمه حين ذكر الغداء اللذيذ...وأجاب مكالمتها :
-مرحبًا حبيبتي أنا قادم ...
أجابته من الطرف الاخر بصوت خافت بالكاد يُسمع :
-حبيبي لقد وصلت إلى الشقة وشعرت بإرهاق كبير ،وحين أردت أن أرتاح قليلا حتى يذهب الإرهاق ....هاااااه ...أخذتني غفوة هاااااااااه ..حتى الآن ...أحضر لنا معك غداءًا لذيذًا...أشعر بجوع شديد ...مع السلامه حبي( هاااااااااااه)بي. ..
وأغلقت الخط ...وغص حلقه..وشعر بثورة عارمه تجتاحه ...
ولكن ثورته هدأت وهو في المطعم يشتري الغداء الذي غضبت من أجله وذهبت الى بيت أبيها حانقة في المرة السابقة ..وتذكر أنها(آيسكريم )
وعاد محمل اليدين بكل ما لذ وطاب...وهو يلعن الآيسكريم ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق