شهيد الحرية
بقلم: ماهر اللطيف
لا زلت أتذكر حواري مع صديقي "الثائر" الذي دفع حياته ثمنا لمبادئه وقيمه التي آمن بها وناضل من أجلها حتى نالت منه أيادي الغدر ووضعت حدا لحياته بعد أن اغتالته ذات صباح وأفرغت في جسده مخزن مسدس بأكمله - ست خراطيش - وهو يغادر منزله في اتجاه عمله - وقد قام بذلك عنصر محترف يعرف بال "قناص" كلفته جهة معادية له ولأفكاره لتستريح منه ومن تحركاته التي أقلقتها وأربكت عملها ومخططاتها "الشيطانية"، فأتم عمله على أكمل وجه -، فترك زوجة وأبناء يتامى دون عائل أو مدير لهم ولشؤونهم....
ثائر آمن بالحرية وضرورة المحافظة عليها والتمسك بها من طرف كل مخلوق مهما كان جنسه و انتمائه أو لونه أو غيره ما دام فوق التراب تماشيا وقول الفاروق عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"....
حرية رأى فيها أساس من أسس الحياة والتواصل إن لم تكن العمود الفقري لذلك، بل هي شعار البقاء والتواجد على الأرض في انتظار التمتع بتلك الخصلة في الآخرة كما كان يقول باستمرار....
فقد كنا يومها في الغابة نتمتع بسحر الطبيعة وتنوع صورها ومشاهدها التي تنسينا آلام الواقع ومآسيه وجروحه، نتجول بين الأشجار والنباتات، نجلس على الأحجار المتناثرة هنا وهناك ونتمتع بمشاهدة تحركات بعض الحيوانات والزواحف ومطاردة بعضها لبعض قصد التهامها والفتك بها، نتابع بعض الصيادة وهم يقنصون الطيور وبعض الحيوانات كالأرانب والحجل وغيرهما، نشرب ونأكل من حين لآخر ونحن نذوب ونلتحم بما نراه ونشعر به ولا نتوقف عن الحمد والشكر لله.....
و فجأة، توقف صديقي وثارت ثائرته وتناثر بصاقه يمنة ويسرة وهاج وماج وهو يشاهد أحد الصيادة يملأ قفصا بالطيور التي اصطادها ويتباهى بذلك قبل أن يلتفت إلى صديقي ويقول له "هذا مصيرك قريبا"، فهرع نحوه مزمجرا ومعاركا قبل أن يفتك منه القفص بكل ما أوتي من قوة و يطلق سراح من فيه عنوة بعد أن تخاصم مع الصياد وتبادلا السب والشتائم ....
ولولا تدخلي وبعض الحضور لكانت الخاتمة كارثية حينها - و خاصة من زمرة مناصري الصياد الذين حاولوا النيل من صديقي والقبض عليه -، مما جعلنا - أنا ومجموعة من الصيادة والمتجولين الذين اختاروا الغابة للترويح عن النفس وهجر الدنيا وزخمها ومشاكلها الكثيرة - نهدئ من روع المتخاصمين ونجبرهما على التصالح والتسامح قبل أن نشرع في التحاور وفهم ما يحدث وأسباب ما قام به إلى أن وصلنا إلى تعريف الحرية التي يؤمن بها إيمانا قاطعا فقال بهدوئه المعتاد وثقته المتناهية بنفسه :
- يقول أبو القاسم الشابي :
"خلقت طليقا كطيف النسيم، وحرا كنور الضحى في سماه تغرد كالطير أين اندفعت، وتشدو بما شاء وحي الإله وتمرح بين ورود الصباح، وتنعم بالنور أنى تراه..."
- الحرية هي التحرر من القيود التي تكبل طاقة الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو معنوية، فهي تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو ذات، وهي التخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما
- هي جزء من الفطرة البشرية تولد مع الإنسان، وهذه النزعة الفطرية قد تسلب منه بسبب وجود عوامل من الظلم والقهر والكبت. فالحرية أصل تكويني، فبجانب أنها فطرة فإن الإنسان تميز عن باقي المخلوقات بنعمة العقل التي تمكنه من التفكير والاختيار....
- هي كسر حواجز العبودية والاستغلال وكافة أشكال القهر والظلم والضيم واستغلال الذات البشرية وثنيها على تحقيق أحلامها وأهدافها....
وبعد أيام، وقعت تصفية صديقي من طرف قناص ثبت أنه يعمل لفائدة ذلك الصياد الذي تشاجر مع صديقي ولم يعجبه تصرف "الثائر" وإطلاقه سراح الطيور التي اصطادها بعد جهد جهيد وكر وفر وجهاد ومعاناة وغيرها....
لكن الحقيقة أظهرت لاحقا أن الصياد نافذ وفاعل في البلاد، حاكم ومستبد، ظالم يتوق إلى استعباد الغير والتعدي عليهم وعلى مبادئهم وأخلاقهم وغيرها....، في حين أن صديقي مواطن عادي يعمل ويجاهد من أجل البقاء والاستمرار، يؤمن بحقه في البقاء والعيش الكريم تحت طائلة القانون الذي يكفل له الحرية والعدالة والكرامة وغيرها من الصفات التي توجد في كل الدساتير والقوانين الوضعية وتفتقر إلى التنفيذ التفعيل على أرض الواقع....
فقد كان صديقي معارضا شرسا لنظام هذا البلد الاستبدادي، ثائرا في وجه كل أشكال القمع والترهيب والتركيع وغيرها، قائدا لمعظم التحركات َالمظاهرات والانتفاضات التي حصلت في وجوه هؤلاء الساسة الدكتاتوريين الذين اسكتوا كل الأصوات المعارضة بمن فيهم صوت صديقي ذات صباح، وكانت حادثة الغابة القطرة التي أفاضت كأس هذا القائد "الفذ" الذي لم يتوان لحظة من أجل إراقة دمه وحرمان عائلته من وجوده وحنانه وقيادته لها في لحظة غضب وثأر مفتعلة لا تمت للإنسانية بصلة في الواقع، اقتص منه لأنه كان "شوكة في حلقه" وفي حلق كل محاولات الحد من الحرية والاعتداء على الكرامة الإنسانية وتجريد الناس من العدالة والحق في العيش الكريم مثل سائر البشر....
وقد كان القصاص سريعا وحصد القاتل ما زرع بعد مدة قصيرة، إذ اغتيل شر اغتيال من طرف أعدائه في أول حراك قام به المعارضون وتحول لاحقا إلى ثورة أتت على الأخضر واليابس وغيرت نظام هذا البلد وتحول صديقي فيه من مجرد مواطن إلى "شهيد وطن" و"شهيد الحرية والكرامة الوطنية" ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق