السبت، 30 سبتمبر 2023

من رواية ملح السراب 2 بقلم مصطفى الحاج حسين

  من رواية ملح السّراب 2


          مصطفى الحاج حسين .

                                               


        استيقظت على ركلة قوية ، وقبل أن أفتح عينيّ الناعستين ، انهمرت دموع الوجع منهما ، أحسست أنّ خاصرتي قد انشقت ، وقد هالني أن أبصر أبي ، فوق رأسي وعيناه تقدحان شررا ، نهضت مسرعا ، يسبقني صراخي وعويلي ، فأنا لم أدّر بعد ، لماذا يوقظني بهذه الطريقة ؟!.


ـ ساعة .. وأنا أناديك .. فلا ترد ياابن الكلب !!!.

   

        أنا أعرف أبي ، إنه قاس ، بل هو أشدّ قسوة وفظاعة من الشيخ " حمزة " نفسه ، ومن مدير المدرسة " الأعور " ، فكثيرا ما كان يضربني وشقيقتي " مريم " ، لأتفه الأسباب ، حتى أمي ، لم تكن تسلم من ضربه وشتائمه :


ـ إلى متى ستبقى " فلتانا " مثل الحمار ، لا عمل .. ولا صنعة ؟!.


        شهقت بعمق ، تنشقت مخاطي ، بينما راحت عينايّ تستوضحان وجه أمي ، المنهمكة باحضار الفطور ، عن معنى مايقوله ابي ، قرأت أمي تساؤلاتي .. فاقتربت مني :


ـ ستذهب .. لتشتغل مع أبيك .. صار عمرك عشر سنوات .

وكدت أصرخ :


ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة ، ولا أحب صنعة العمارة .


غير أنّ نظرات أبي الحادة ، أرغمتني على الصمت ، فبقيت مطرق الرأس ، أشهق بين اللحظة والأخرى .

قال أبي بقسوة :


ـ تحرك .. اغسل يديك ووجهك .. وتعال تناول لقمة قبل أن نذهب .


        خرجت من الغرفة ساخطا ، شعرت بكره نحو أبي ، وصنعة البناء ، فهي متعبة ، تعرفت عليها ، عندما كنت أذهب إليه أحيانا ، فأرى ما يعانيه ، الذين يشتغلون بهذه المهنة .. من تعب .


        تبعتني أمي إلى المطبخ ، وما كدت أسمع وقع خطاها ، حتى التفتّ نحوها صارخا :


ـ أنا لا أريد الشغل .. في العمارة .


فردت بصوت يكاد يكون همسا ، بينما كانت تضع اصبعها على فمها :


ـ لو لايّ .. لأخذك من سنتين معه إلى الشغل .. الآن لم يعد يسمع كلامي .


ـ لكنني لا أقدر على حمل الأحجار ، وأسطلة الطين .


قلت بحنق شديد . قالت أمي :


ـ وماذا أفعل ؟.. أنت تعرف أباك .. لا يتناقش .


وقبل أن أرد ، على أمي .. انبعث صوت أبي صارخا ، من الغرفة :


ـ ألم تنته من التغسيل يا أفندي ؟!.. تأخرنا .. صار الظهر .


أسرعت إليه .. متظاهرا بتجفيف وجهي .. وخلال دقائق ، ازدردت عدة لقيمات .


        ونهضت خلفه ، حزينا .. يائسا .. بي رغبة للبكاء ، سرت خلفه ، أراقب حركات " شرواله" المهتريء ، وسترته " الكاكية " الممزقة ، تأملت " جمدانته " السوداء العتيقة .. تمنيت في تلك اللحظة ، ألاّ يكون هذا الرجل أبي ، كل شيء فيه كريه ، حتى شكله ، عمي " قدور " أجمل من والدي ، والأهم من هذا كله ، أنه لا يرتدي " شروالا " ، ولا يرغم ابنه " سامح " ، الذي يكبرني بسنة ونصف ، على عمل لا يحبه ، لقد أدخله و " سميرة " المدرسة ، وهو يشتري لهما الألعاب ، ويعاملهما بمحبة ودلال .


        كنت أحدث نفسي طوال النهار ، وأتمنى التملص من أبي ، وكلما ازداد تعبي ، أزددت حنقا عليه ، الشمس حارقة ، والأحجار ثقيلة ، وسطول الإسمنت قطعت أصابعي ،الغبار يخنقني ، والعرق الدّبق يغسّلني ، وأبي لا يتوقف عن العمل ، ولا يسمح لعماله بقسط من الراحة ، في الظل .


        أفكر في  " سامح " ، وكيف سيضحك عليّ ، إذا علم بقصة عملي ، إنه الآن في المدرسة ، بعد قليل ينصرف ، ينطلق باحثا عني ، لكنه لن يجدني ، سيجوب الأزقة .. يسأل أمي وأخوتي .. وسيفرحه الخبر ، فأنا الآن عامل بناء ، في ثياب وسخة ، بالتأكيد سيفتش عن أصدقاء غيري ، يشاركونه اللعب .

        لن ننصرف قبل أن تغيب الشمس ، ما أطول النهار ، وما أبعد المغيب !!!.. لن يتسنّى لي أن أرتاح ، وألعب قليلا مع " سامح " .


        اللعنة على الإسمنت والحجارة

 اللعنة على الفبار الذي أمقته ، أكاد أختنق ، رأسي انصهر من شدة الحر ، والعرق يتصبب مني بغزارة ، عليّ أن أستحمّ فور عودتي .


        هذا اليوم أقسى أيام حياتي ، لم يكد أن يأذن العصر ، حتى شعرت أن قواي خارت تماما ، وجهي تحول إلى كرة ملتهبة ، محمرّة ، رأسي أشتد به صداع حاد ، يدايّ ، قدمايّ ، ظهري ، رقبتي ، أكتافي ، عينايّ ، كلّ خلية في جسدي الهزيل ، تؤلمني ، وتوجعني ، وتصرخ ، وتبكي ، وتمنيت أن أموت في تلك اللحظة ، أو أتحول إلى كلب ، أو قطة ، تذهب حيث تشاء ، تستلقي في الظلّ .. وتغفو . وتساءلت :


ـ يا إلهي .. ألا يتعب أبي ؟!؟!؟!.. هل هو من حجر ، أم من حديد ؟!؟!؟!.. إذاَ لماذا لا يستريح ؟!.. ولو خمس دقائق فقط ، خمس دقائق يا أبي لن تخرب الدنيا .. شعرت نحوه ببعض الإشفاق ، وبشيء كبير من الغضب والحقد :


ـ إن كنت لا تهتم بنفسك ، أو بعمالك ، فأنا تعبت ، ولم أعد قادرا على تسلق السّلّم ، ولن أقوى على حمل سطل الإسمنت ، أنا منهار أيها الأب القاسي ، هل تسمعني ؟!.. ألا تفهم !!!.. اعلم إذاَ بأنني سوف أهرب .. وأتركك مع عمالك الأغبياء ، هل باعوك أنفسهم ، من أجل بضع ليرات ؟!.


        ونمت فكرة الهرب ، في رأسي

 صارت تتغلغل إلى خلايا جسدي ، المنهكة .. فتنعشها ، لكنني سرعان ما جفلت .. من فكرتي هذه ، وصرت أرتجف. غير أن الفكرة الرائعة ، كانت قد سيطرت عليّ تماما ، سأهرب .. وهناك في البيت ، سوف تتشفع لي أمي .. سأهرب .. وسأرجو والدي أن يعتقني من هذه الصنعة ، وكبرت الفكرة في ذهني ، سألجأ إلى عمي " قدور " ، أتوسّل إليه أن يساعدني ، في إقناع أبي ، بالعدول عن قراره ، بالعمل معه ، سأعمل في أيّ مهنة يشاء ، فقط لو يتركني أنجو من هذه الصنعة ، وعزمت أن أنفذ الفكرة .. وتمكنت من الفرار ، دون أن يلحظني أحد ، فقد تظاهرت بأنني أريد التبول ، ولمّا أدركت ، أنني ابتعدت عن أنظار والدي وعماله ، أطلقت العنان لقدميّ المتعبتين .


        لم أكن أدري ، أن أبي سيترك عمله ، ويتبعني إلى البيت ، فور اكتشافه أمر هروبي ، فما كدت أطلب من أمي ، أن تعد لي لقمة ، ريثما أغتسل وأغير ثيابي ، حتى اقتحم أبي الدار ، والغضب يتطاير من وجهه المغبر ، هجم عليّ ، وفي يده خرطوم ، صارخا في هياج :


ـ هربت يا ابن الكلبة !.


      يبست الكلمة في فمي ،تراجعت

 انبعث صوتي ضعيفا باكيا :


ـ تعبت يا أبي .. لم تعد لي قدرة على الشغل .


انهمرت على جسدي العاري ، سياط الخرطوم ، عنيفة ، قوية ، ملتهبة ، ودون أدنى شفقة ، أو رحمة ، وانتشرت صرخاتي في كل الإتجاهات ، حادة عالية :


ـ دخيلك يا " يوب " ، أبوس رجلك .. أبوس  "صرمايتك " .


وأسرعت أمي نحوي ، ارتمت على أبي بضخامتها ، وقفت حائلا بيننا ، فما كان منه ، إلاّ أن صفعها بكل قوة :


ـ ابتعدي .. من أمامي يا بقرة .


تلقت لسعات الخرطوم ، صارخة :


ـ خير !!!.. يا " أبو رضوان " .. ماذا فعل الولد ؟؟؟.


ـ ابن الكلب ...هرب من الشغل .


تابع ضربي ، ولم تنج أمي من ضرباته أيضا ، فكانت سياطه تقع على جسدها الضخم ، المترهل ، بينما وقفت أختي (مريم) في أقصى الزاوية ، جزعة ، مرعوبة ، تبكي بصمت ، وترتجف ، تدفق الدم من فمي بغزارة ، فارتمت أمي على قدميه ، ترجوه ، تتضرع له ، تتوسل ، تتذلل ، تبكي بجنون ، وبحرقة ، وألم :


ـ أبوس " قندرتك " توقف ، عن ضربه ، الولد انتهى .


        هجم عليّ من جديد ، رفع يده عاليا ، وهوى بها على رأسي ، فطار الشرر من عينيّ ، وصرخت صرخة ارتجت لقوتها أرجاء الغرفة ، صاحت (مريم) بذعر شديد ، وبينما كنت أتدحرج ، ممرغا بدمائي ، شقت أمي ثوبها ، اندلق على الفور نهداها الهائلان ، تناهى إلى أسماعنا ، صوت خبطات قوية على الباب .. رمى أبي الخرطوم ، وخرج ليفتح .


        انحنت أمي تغسلني بدموعها ، ضمتني إلى صدرها العاري ، وبكت بحرقة ، وهي تدمدم :


ـ أسفي عليك يا " رضوان " ... أسفي عليك يا ولدي .


دخل عمي (قدور) ، فأسرعت أمي إليه باكية :


 ـ دخيلك .. الولد راح من يدي .


زعق أبي .. متهدج الصوت .. وكان الندم قد تسلل إلى صوته :


ـ ادخلي .. غرفتك يا مقروفة الرقبة .. واستري صدرك .


لكنها لم تأبه بكلامه :


ـ الولد بحاجة إلى دكتور..يا (قدور) .


          مصطفى الحاج حسين 

                       حلب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

‏بنك القلوب بقلم ليلا حيدر

‏بنك القلوب بقلمي ليلا حيدر  ‏رحت بنك القلوب اشتري قلب ‏بدل قلبي المصاب  ‏من الصدمات ولما وصلت على المستشفى  ‏رحت الاستعلامات ‏عطوني ورقة أم...