صامت كل ما حولها ، جامد كصنم لا حراك فيه ، الظلام يستر كل ما تعرى بالنهار ، وحيدة هي بتلك الغرفة البائسة ، تتنفس بصعوبة شديدة ، ليس خوفا ، ولكن ربما هو شعور بالغربة ، رغم أنها ببلدتها التي ولدت وترعرعت فيها ، وببيتها الذي تزوجت وأنجبت أبناءها فيه ، غربة نفسية ربما إن صحت التسمية ، ذكريات وأحاديث وصور تمر أمامها وهي تطل من تلك النافذة على الساحة التي أمام بيتها ، تؤرقها، تؤلمها، توجعها، غصة بالحلق ودمعة بالعين وأحيانا قليلة وقليلة جدا ترى بسمة أو ضحكة تعلو وجهها وتمسك ما علق به من حزن ....
ترهف السمع ، وتقترب أكثر من النافذة ... فللكلمة سحر، ونبض ، وعطر ، تحتضن الحروف ويبقى صداها للقلب ؛ هناك كلمات ، ليست كالكلمات ، تحيي ذكرى ، و تزرع أملا ، تود لو تعيد سماعها بلا ملل ولا كلل ، لأن لها نوراً يسري داخلها ، ومنطوق حرف يعزف لحنا على مسمعها ، لحنا كتب عليه لحن الخلود ، لحن وكلمة ونبض وذكرى لعطر محال أن يزول ، عطر أبنائها وكلمة أمي ...
سمعت تلك الكلمة " أمي " فاقتربت من النافذة كما زمان ، ظنا منها أنها ستجد أحد أبنائها عائداً إليها ، لقد رحلوا الواحد تلو الآخر ، غادروا البلدة بعد وفاة والدهم وتركوها وحيدة لا ونيس ولا جليس ، فقط ذلك المذياع العتيق تستقي منه الأخبار من وقت لآخر
مرت سنوات على غيابهم ولا خبر عنهم ، طال انتظارها ، ويئست من عودتهم
ذرفت الدموع أنهارا وحزنت أعواما وأخيرا تسلحت بالصبر ، واقتنعت بموتهم ولو كانوا أحياء
هاهي كما تعودت ، تجاور النافذة طيلة يومها فهي المنفذ الوحيد والمؤنس الفريد ، من خلالها تعيش ماضيها وتشعر بالراحة أحيانا واليأس والحزن أحيانا أخرى ، وفي الليل
تصارع النعاس كما عادتها في كل ليلة ، مع أنها تعرف ، أنها لن تخرج منتصرة من هذه المصارعة ، دائما يعاندنها ويهجرنها ويتركها تتقلب ذات اليمين وذات الشمال ، إلى أن تخزها أولى خيوط الضوء الصباحية ، كإبرة مخدر ، فتسلم الجسد للنوم بكل طواعية لبضع ساعات فقط .... قضت الخالة مريم حياتها على هذه الوتيرة إلى أن توفاها الله ، ماتت جارتنا الطيبة وحيدة ببيتها ولم تسعد باحتضان أبنائها !!!
رفيعة الخزناجي /تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق