الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

الشيخ النجار بقلم مصطفى علاء بركات

  الشيخ النجار 


قصة قصيرة 

بقلم / مصطفى علاء بركات


رفع طرف جلبابه الأبيض إلى نهاية الثوب العلوى الرمادي الخاص بأئمة الأوقاف ، قفز من القطار 

و قد أحكم ذراعه تحت إبطه على نسخة كبيرة خضراء من مجلد الفقه على المذاهب الاربعة ( فصل العبادات ) ، عدل عمته الأزهرية و بدأ السير بخطوات سريعة متلاحقة على تلك الأراضي الطينية الرطبة  ، كان يسير و إبتسامة عريضة لا تفارقه ، و وجهه مشرق منير مثل الصفحة البيضاء ، ينظر هنا و هناك ،  يلقى السلام على كل من ينظر فى وجهه ، لم يتوقع يوما أن يتم إنتدابه لمدة أسبوعين بالمسجد الكبير التابع للأوقاف بالقرية ، منذ دراسته فى قريته التى تبعد عن قرية ( الشيخ النجار ) بحوالي ساعتين و نصف بالسيارة ، و هو يستمع لمديح الناس و ثنائهم على الشيخ النجار  ، و أن الله أكرم مصر بالجامع الأزهر ، و أكرم قريتهم بالشيخ النجار ، على مدى سنوات  أراد كثيراً

  ان يتواصل معه عبر القنوات الرسمية للمشيخة .. و لكن لم يصل لشىء ، أرسل عدة خطابات رسمية ، و طلبات حكومية و لكن لم يصل له - حتى علم انه توفى من عام  ، كان مبهورا بتأثيره على الكبار و الصغار ، و كان يراه مثالاً للعالم المجد المجتهد 


لفت نظره محل صغير للفاكهة و الخضروات  ، كانت منظمة على شكل مربعات متساوية من الصناديق الخشبية ، تفوح منها رائحة الخضروات الطازجة من طماطم و فلفل حار  ، و شاب فى أواخر العشرينات يرفع بيده الصناديق لتقوم بإفراغها لفتاة رقيقة الملامح ، تحمل طفلا صغيرا ممتلىء الوجه و الخدين ، و هى تداعب خده برفق فيبتسم و يضحك بصوت راقص ، يتحرك معها كل جسده الصغير

 - السلام عليكم ، كنت أسأل عن معهد الشيخ النجار

ترك الشاب الأسمر الصناديق التى كان يرفعها ، و إلتفت إلى زوجته و قد إبتسم إبتسامة عريضة 

الشيخ النجار ... أتذكرين !

إبتسمت بدورها و نظرت فى الأرض و قد تحول وجهها للون للأحمر 

إلتفت اليه الشاب الأزهرى مرة اخرى و قال ببعض الجدية 

-  أتعرفه ؟

 إبتسم و هو لا يزال ينظر لزوجته 

- لولا الشيخ النجار ما كنت تزوجت ..

بدا التعجب على الشيخ الشاب و هز رأسه كأنه لم يفهم العلاقة 

- نعم ، لولا الشيخ النجار ما كنت تزوجت 

- تدخلت المرأة ، و قالت 

- إختلف أبى مع زوجى ( منصور ) ... و كان الوقت ضيق .. و كنا فى مأزق .. أبى لا يريد أدنى تنازل ، لأنى إبنته الكبرى .. و لم نكن قادرين على كل الشروط 

- و الله يا عم الشيخ ، لقد ترك بيته و جاء و ظل بينى و بين أبيها .. يفعل ما يحسن فعله 

تعب كثيرا هذا اليوم ، و إرتفعت الأصوات لوقت متأخر سمعها كل اهل القرية  

- أردفت زوجته  : حتى أبى شعر بالحرج من متطلباته و أعتذر و قال إنه يحبنى و لا يريد أن يكون السبب فى ظلمى 

- يا مولانا حتى هذا المحل ... ساعدني فيه حتى أصبح كذلك  ، لقد عم خيره الجميع .. هذا الملعب هناك كادت ان تقوم فتنة بين أهل القرية بسبب إزعاج الأطفال  ، أخذ معه الأطفال و أرشدهم للصواب  ، حتى فتحى هذا - و أشار بيده الى محل مجاور للمسجد ، عليه لافتة نصفها مغطى تحت شجرة خضراء كثيفة الأوراق عريضة الساق ، و تبرز  عبر  الأغصان الكثيفة  من اللافتة كلمة ... عبد الملك 

  - لولا صحبته للشيخ النجار لظل فى ضلاله القديم 

و قهقه ضاحكاً

و نادى بصوت مرتفع ، و هو يضحك 

- يا شيخ فتحى ، يا شيخ فتحى 

رفع الأخير وجهه غاضباً

- مولانا ... بيسأل عن الشيخ النجار 

تحول وجهه من الغضب إلى السكينة الشديدة و إرتاحت ملامحه تماما ، و ظهرت فى عينيه لمعة  و ألقى ما فى يده على الأرض ، و خرج بخطوات واسعة 

- الشيخ النجار ... يا الله 

إتفضل يا مولانا ، اتفضل ، و سحب له كرسى قوائمه من خشب بنى عريض 

- سمعت أنك صحبت الشيخ النجار ، و أنك إستفدت من علومه 

قاطعه فتحى 

- إستفدت من علومه !

يا مولانا لولا الشيخ النجار لكنت الأن فى الجحيم ، أو فى السجن ، لقد غير حياتى كلها 

ظهر الإنبهار على الشيخ ، انفتح فمه ثم ابتلع ريقه

 و صمت و أنصت بإهتمام 

- كنت معظم الوقت بالشارع  لا أفعل شيئاً - على جانب الترعة  ، أتمشى فى الطرقات بجوار منازل النساء وقت الظهيرة ، رآنى و هو فى ساحة أحد تلك البيوت ، كان يتواجد فى الخارج  ، حتى يأتى الزوج أو أى رجل ، لمحنى أسترق النظر داخل البيوت .. لازلت أتذكر نظرته ، كان وجهه جامداً

 و ينظر لى نظرة غضب مكتوم لا يظهر على ملامحه ... و لكن شعرت به ، إستوقفنى بعدها يوما و قال لى بحزم : تعال معى 

لا أعرف لما ذهبت معه ، أخذنى و لم يبخل على بشىء أخذنى معه فى كل مكان ، تعلمت منه الكثير

كان يشركنى فى طعامه .... رحمة الله عليه 

تعلمت منه كل شىء .. حتى أصبحت هكذا 

- إعتدل الشيخ الشاب فى جلسته : هل كان له حلقات علم فى المسجد ، هل كان له أذكار و أوراد 

- حك فتحى رأسه : كان يذهب للمسجد فى العشاء و قبل طلوع الشمس ... و كان دائماً و هو جالس 

يقول ... اللهم صلى على كامل النور .. اللهم صل على ذى الخلق العظيم .. تقريبا 

أتعرف حتى مشايخ المسجد ، تشاجروا فيما بينهم فى طعام رمضان .. و هو الذى تبرع و أخذ فقط أقل القليل و عمل كل هذا ، و أشار إلى منضدة يصل عرضها لمترين و يزيد طولها عن خمسة أمتار 

تخيل ... صنعها وحده !!

أنظر لهذا الخشب .. انظر إلى إتقان التدوير و التعشيق 

ثم أشار إلى ماكينة طويلة بها حدود معدنية بارزة 

- بالرغم من كل هذه الماكينات لا يمكنني صنع مثل هذه المنضدة ، ولا غرفة نوم منصور و زوجته - لقد ظل يعمل وحده أربع ساعات متواصلة حتى أنهاها بجودة معلم 

ارتفع صوت الأذان ، نظر حوله لم يجد أى سجادة صلاة ، فهم الشيخ بالقيام و  نظر له قائلا  : 

- لن تأتى  ... لصلاة الظهر ؟

إبتسم ( فتحى ) فى خجل 

- أتعرف لقد حلمت به كثيرا ، و كنت أراه دائما واقفاً بالأعلى فوق سلالم المسجد ، و أنا ممسك بيده .


( تمت )


مصطفى علاء بركات


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

عفوا أيها القلم بقلم معز ماني

   عفوا أيها المستقبل  أنا لا اعرفك أيها المستقبل ولكنني عرفت الماضي أنا لا أفهم لغتك لأني لم اتعلم  غير الماضي ينام ولا يبالي كان يا مكان و...