بقلم: فؤاد زاديكي
فِي لَحْظَةٍ مِنَ العُمُرِ خَالَجَتْنِي فِكْرَةٌ أَنْ أَعُودَ بِعُمُرِي مِلَايِينِ السِّنِينَ إِلَى الوَرَاءِ، لِلْعَيْشِ فِي مُغَرٍ عَتِيقَةٍ مَحْفُورَةٍ فِي قَلْبِ الصَّخْرِ، لِتُبْعِدَنِي عَنْ وَاقِعِ الحَيَاةِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَمْوَاجِ شُرُورٍ لَا حَصْرَ لَهَا، أَعِيشُ نَاسِكًا مَعَ نَفْسِي وَ أَنَا أَتَوَجَّهُ بِفِكْرِي وَ قَلْبِي وَ رَغْبَتِي حَارِقًا رَغَبَاتِ الجَسَدِ الفَانِيَةِ لِلْعَيْشِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ بِكُلِّ مَا فِيهَا بِدُونِ شَوْكَةٍ وَ سِكِّينٍ، بِدُونِ فِرَاشٍ وَ كُرْسِيٍ وَ طَاوِلَةٍ. كَيْفَ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شُعُورِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الحَالَةِ؟ كَيْفَ كُنتُ سَأُوَاجِهُ مُتَطَلَّبَاتِ الحَيَاةِ البَدَائِيَّةِ؟ هَلْ كَانَ الزَّمَنُ البَسِيطُ، الَّذِي عَايَشَهُ أَسْلَافُنَا يَعْنِي لَنَا الأَمَانَ وَ السَّكِينَةَ أَكْثَرَ مِمَّا نَعِيشُهُ الآَنَ؟ أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ تَطْفُو عَلَى السَّطْحِ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
فِي تِلْكَ الأَيَّامِ البَعِيدَةِ، كَانَ الإِنسَانُ يَسْعَى بِكُلِّ مَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ لِلْبَقَاءِ عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ. الحَيَاةُ كَانَتْ بَدَائِيَّةً لِلْغَايَةِ، وَ كَانَ الإِنسَانُ يَعْتَمِدُ عَلَى الصَّيْدِ وَ جَمْعِ الثِّمَارِ. لَا آلَاتٍ، لَا كَهْرَبَاءَ، لَا تِكْنُولُوجِيَا تُعِينُ عَلَى التَّقَدُّمِ. كَانَ المَأْوَى الوَحِيدُ هُوَ الكُهُوفُ أَوِ الأَكْوَاخُ الَّتِي يَمْلَؤُهَا الدُّخَانُ مِنَ النَّارِ، وَ النَّارُ كَانَتْ رَفِيقَهُ الوَحِيدَ، تُضِيءُ لَهُ الظُّلْمَةَ وَ تُدْفِئُهُ فِي لَيَالِي الشِّتَاءِ القَارِسَةِ. كَانَتِ المَرْأَةُ تَجْمَعُ النَّبَاتَاتِ، وَ الرَّجُلُ يَصْطَادُ الحَيَوَانَاتِ البَدَائِيَّةِ. كُلُّ شَيْءٍ كَانَ مَرْهُونًا بِالأَرْضِ وَ بِقُدْرَةِ الإِنسَانِ عَلَى التَّأَقْلُمِ مَعَهَا و التَّحَمُّلِ.
أَمَّا اليَوْمَ، فَنَحْنُ نَعِيشُ فِي عَالَمٍ مُخْتَلِفٍ تَمَامًا. تِكْنُولُوجِيَا مُتَقَدِّمَةٌ جَعَلَتْ حَيَاتَنَا أَسْهَلَ مِنْ حَيْثُ الرَّفَاهِيَّةِ، لَكِنَّهَا أَصْبَحَتْ أَكْثَرَ تَعْقِيدًا مِنْ حَيْثُ العَلَاقَاتِ الإِنسَانِيَّةِ. نَجِدُ أَنْفُسَنَا مُحَاطِينَ بِالِاخْتِرَاعَاتِ المَدْهِشَةِ الَّتِي تُوَفِّرُ لَنَا أَوْقَاتَ الرَّاحَةِ، وَ لَكِنَّهَا أَيْضًا تَجْعَلُنَا نَشْعُرُ بِالْوَحْدَةِ فِي عَالَمٍ مُتَرَابِطٍ إِلِكْتِرُونِيًّا. بَيْنَمَا كَانَتِ العَلَاقَاتُ فِي العَصْرِ الحَجَرِيِّ بَسِيطَةً لِلْغَايَةِ، حَيْثُ كَانَ التَّوَاصُلُ مَعَ الجِيرَانِ هُوَ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، فَالْيَوْمَ أَصْبَحْنَا فِي سِبَاقٍ لَا يَنْتَهِي لِزِيَادَةِ الإِنتَاجِيَّةِ وَ الرِّبْحِ، وَ تَدَاوَلَتْ كَثِيرٌ مِنَ العَلَاقَاتِ الإِنسَانِيَّةِ لِصَالِحِ التَّفَوُّقِ التِّكْنُولُوجِيِّ.
لَقَدْ تَقَدَّمْنَا فِي مَجَالاتٍ لَا حَصْرَ لَهَا، فَالعَالَمُ اليَوْمَ يَشْهَدُ اكْتِشَافَاتٍ عِلْمِيَّةً تُغَيِّرُ المَفَاهِيمَ وَ تَفْتَحُ أَبْوَابًا جَدِيدَةً لِلْإِنسَانِيَّةِ. وَ مَعَ ذَٰلِكَ، هَلْ أَصْبَحَتْ تِلْكَ التَّقَدُّمَاتُ سَبَبًا فِي إِضْعَافِ الرَّوَابِطِ الإِنسَانِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تُمَيِّزُنَا فِي المَاضِي؟ كَيْفَ تَغَيَّرَتْ قِيَمُنَا فِي عَالَمٍ مَلْيءٍ بِالْمُخْتَرَعَاتِ الرَّائِعَةِ؟ أَتَسَاءَلُ، هَلْ كَانَتِ الأَيَّامُ الَّتِي عِشْنَاهَا فِي المَاضِي السَّحِيقِ أَكْثَرَ سَلاَمًا وَ أَمَانًا، حَيْثُ كَانَ الإِنسَانُ أَقْرَبَ إِلَى الأَرْضِ وَ أَكْثَرَ تَحَلِّيًا بِالقِيَمِ البَسِيطَةِ؟
لَقَدْ كَانَتْ أَيَّامًا صَعْبَةً بِلَا شَكٍّ، لَكِنَّنَا عِشْنَا فِيهَا بِشَكْلٍ مُخْتَلِفٍ، أَكْثَرَ ارْتِبَاطًا بِالحَيَاةِ وَ الطَّبِيعَةِ. اليَوْمَ، رَغْمَ رَفَاهِيَّتِنَا، إِلَّا أَنَّنِي أَحْيَانًا أَشْتَاقُ لِذَٰلِكَ العَصْرِ البَسِيطِ حَيْثُ كَانَ القَلْبُ أَقْرَبَ إِلَى الوَاقِعِ، بَعِيدًا عَنْ مُشَاغِلِ الحَيَاةِ المُعَقَّدَةِ، الَّتِي نَعِيشُهَا الآَنَ. في تِلكَ الأيَّامِ البَسِيْطَةِ، كَانَ الإنْسَانُ أقْرَبَ إلى ذَاتِهِ، يَعِيْشُ كُلَّ لَحْظَةٍ كَمَا هِيَ، لَا يَشْغَلُهُ سِوَى الحِفَاظِ عَلَى حَيَاتِهِ فِي مُواجَهَةِ قَسوَةِ الطّبِيعَةِ. أمّا اليومَ، فقد أصبحنا نركضُ وراءَ تطلّعَاتٍ لا نهايةَ لها، في عالمٍ يَعُجُّ بالصَّخَبِ و التّكنولوجيا، فَنَنسى أحيانًا أنْ نتنفّسَ بعمقٍ أو نُقدِّر اللحظاتِ الصّغيرةَ، التي كانت تَملأُ أيّامَ أسلافِنا بالسّلامِ الدّاخليّ.
هل كان ذلك العيشُ البسيطُ أكثرَ تواضُعًا؟ أم أنّه كان بالفعل أكثرَ غِنًى من حياتِنا الحديثةِ؟ في الماضي، لم تكنْ هناك معاييرُ مادّيّةٌ تُقَيِّمُ الحياةَ، كانتِ السّعادةُ تكمُنَ في البقاءِ على قيدِ الحياةِ، في التّفاعلِ مع الطّبيعةِ، في لحظاتِ الهُدُوءِ داخلَ الكهفِ أو بالقُربِ مِنَ النّار. أمّا الآن، فحَياتُنا مَليئةٌ بالإنجازاتِ التّكنولوجيةِ، لكنّنا في كثيرٍ من الأحيانِ نفقدُ الاتّصالَ بأبسطِ جَوَانبِ الحياةِ، التي كانتْ في الماضي مصدرًا للسّعادةِ الحقيقيّةِ.
حين أعودَ بخيالي إلى تلك الحقبةِ، أرى الإنسانَ و قد تطوّرتْ لديه قدراتُه البدائيةُ، لكنه لم يكن مشغولًا بكل ما يشغلنا اليوم. ربّما كانت الحياة أقل تطورًا من حيث الرفاهية، و لكنّها كانت أكثر تماسكًا، و أكثر قربًا من الواقع بكل تفاصيله. اليوم، أصبحنا أكثر تطوّرًا تقنيًا، لكننا أقل ارتباطًا بطبيعتنا و أقلّ قدرة على التفاعل مع أنفسنا و الآخرين بشكل حقيقي.
أعتقدُ أنّ العودةَ إلى ذلك الزمنِ البسيطِ قد تكونُ تجربةً تطهيريّةً لروحنا المعاصرة، بعيدًا عن تعقيدات الحياة الحديثة.
المانيا في ٦ نوفمبر ٢٤
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق