بقلم: فؤاد زاديكى
في الحياةِ، و نحنُ في غمارِ معمعتها، و في خضمِّ بحرِها المتلاطم، تتقاذفُنا الهمومُ و المتاعبُ و الأحزانُ، و تؤثِّرُ فينا المواقفُ على اختلافِها، و يجرفُنا تيّارُ المعاناةِ بأشكالِها و صورِها المتعدّدة. نأتي إلى الدنيا، فيسودُ الفرحُ، و تعمُّ السّعادةُ، و تبتهجُ النفوسُ بقدومِ جديدٍ، لولادةٍ أخرى تُضافُ إلى الرقمِ العدديِّ لسُكّانِ العالم، دونَ أن يخطرَ ببالِنا كمُّ الألمِ و المعاناةِ، التي تنتظرُ هذا الكائنَ الصغيرَ، و هو لا يزالُ في مهدهِ لا يفقهُ من أمرِ الدنيا شيئًا.
تمرُّ السنواتُ، و تتسارعُ الأيامُ، و نجدُ أنفسَنا فجأةً وسطَ زحامِ الحياة، نُصارعُ لننجو، نُكافحُ لنبقى، نحاولُ أن نُثبتَ وجودَنا وسطَ عالمٍ لا يرحمُ الضّعفاء. و مع كلِّ موقفٍ نتعرضُ له، نتغيّرُ قليلًا، نُصبحُ أشدَّ قسوةً، أو ربّما أكثرَ حكمةً، نحملُ على كواهلِنا ثِقلَ التّجربةِ، و نحاولُ ألّا ننكسرَ تحتَ وطأةِ الخذلانِ و الخيباتِ و الآمالِ المؤجلة، و قد تكونُ مُحَطَّمَةً.
غير أنّ كلَّ هذا لا يُنقذُنا من النّهايةِ الحتميّةِ، التي تنتظرُ الجميع، تلك الخاتمةُ الهادئةُ حينًا، و المفجعةُ حينًا آخر، الرّحيلُ الأبديُّ، الذي لا مهربَ منه، إذ تنقلبُ الأفراحُ إلى أحزان، و تتحوّلُ البهجةُ إلى غمٍّ وهمٍّ، و تعمُّ الكآبةُ الوجوهَ، التي كانت بالأمسِ تضحكُ و تُصفّقُ لقدومِ الحياة.
فكيفَ لنا أن نتعاملَ مع هذينِ المتناقضينِ في الحياة: الفرحِ و التّرح؟ كيفَ نُمسكُ العصا من المنتصفِ فنُدركَ المعنى العميقَ لكِليهما؟
علينا أن نُدركَ أوّلًا أنّ الحياةَ لا تُقدّمُ لنا وعودًا بالهناءِ الدائم، كما أنّها لا تُغرقُنا دومًا في الحزنِ القاتم. إنّها مزيجٌ دقيقٌ من الأملِ و اليأس، من الرجاءِ و الانكسار، من الحبِّ و الفقد، من النجاحِ و الفشلِ. و علينا في كلِّ ذلك أن نتحلّى بالوعيِ الكافي لنُميّزَ بينَ ما يستحقُّ أن نُقاتلَ من أجله، و ما يستحقُّ أن نُسامحَ و نمضي عنه.
من المهمّ أن نزرعَ في أنفسِنا الإيمانَ العميقَ بأنّ كلَّ لحظةٍ نعيشُها هي هدية، و أنّ الحزنَ مهما طال، لا بدَّ أن يعقُبَه فرحٌ، و أنّ الليلَ مهما اشتدَّ سوادُه، لا بدَّ أن يعقُبَهُ فجرٌ جديد. التّوازنُ في النّظرةِ إلى الحياةِ هو ما يُبقي النّفسَ قادرةً على الاستمرار، و مواجهةِ المصاعبِ بشجاعةٍ و ثبات.
كما علينا أن نتمسّكَ بالمحبّةِ، فهي البلسمُ الشّافي في عالمٍ يكثُرُ فيه الجفاءُ و الخذلان. المحبّةُ للذاتِ أوّلًا، بالتّسامحِ معها، بعدمِ جلدِها، بفهمِ احتياجاتِها و العملِ على تلبيتِها. ثمّ المحبّةُ للآخر، من خلالِ التفهُّمِ و التعاطف، و عدمِ تحميلِه فوقَ طاقتهِ من التوقّعاتِ و اللوم.
الامتنانُ أيضًا سبيلٌ مُهِمٌّ. أن نكونَ ممتنّينَ لما لدينا، مهما بدا بسيطًا أو قليلًا، يُغيّرُ زاويةَ رؤيتِنا للحياة، و يُساعدُنا على تحمُّلِ ما لا يُحتمل.
و في خاتمةِ القولِ، علينا أن نتذكّر أنّنا لسنا وحدَنا في هذا البحرِ الهائج، هناكَ من يُصارعُ معنا، مَنْ يُعاني مثلَنا، مَن يُحبُّنا، و مَنْ يُعلّقُ آمالَه علينا. فلنُشعِلْ شمعةً في عُتمةِ الأيامِ، و لنَمضِ قُدُمًا دونَ خوف، فالحياةُ ليست فقط ما يحدثُ لنا، بل كيفَ نختارُ أن نتعاملَ مع ما يحدث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق