السبت، 10 مايو 2025

يوم أسطوري بقلم ماهر اللطيف

يوم أسطوري

بقلم :ماهر اللطيف

كان "رامي" يرى أن هذا اليوم تاريخي ومشهود بالنسبة له - وهو كذلك فعلا كما سنرى -، بل إنه عيد ويوم احتفال، ناهيك وأن جمعيته الرياضية تجري ظهرا مباراة ختامية في رياضة كرة القدم ضد فريق آخر تتوج على إثرها برمز بطولة هذه السنة الرياضية.

لذلك، عزم على مرافقة رفاقه في العمل وأبناء حيه إلى الملعب لمساندة فريقه أولا، فالمشاركة في موكب الاحتفال ثانيا، والتحرر من جبروت الروتين واستبداد القدر الذي أدار له ظهره وجعله يكابد الويلات والمصاعب والعراقيل والأمراض وغيرها - كما كان يرى ويؤمن - ثالثا.

فاقتنى تذكرته مثل أترابه، ومستلزمات "هذه الرحلة" من مياه معدنية وبعض المأكولات الخفيفة ونحوها، ارتدى قميص فريقه وزيه الرياضي، تعطر ورتب شعره، وضع نظارته الشمسية على شعر رأسه في انتظار وضعها على عينيه حال خروجه من المنزل، قبّل جبين أمه الملقاة على الفراش - وهي مريضة منذ مدة بمرض خبيث (السرطان الذي هاجم كبدها)، تتناول أدويتها بانتظام تحت رعاية ممرضة خاصة تفرغت بالكامل للاعتناء بها ليلا ونهارا-، فيديها وطلب منها أن تدعو له ولفريقه بالتوفيق والفلاح، فابتسمت في وجهه ورفعت سبابة يمناها عاليا وسمرت نظرها في عيني رامي - بما أنها لم تعد تقدر على الكلام -، ثم غادر المكان للالتحاق بمشجعي الملعب.

وما هي إلا دقائق حتى انطلقت المباراة تحت أهازيج آلاف الجماهير التي ملأت مدارج هذا الملعب الكبير وتشجيعهم المستمر دون انقطاع، وكان رامي لا يدخر جهدا من أجل التشجيع والغناء والرقص مثل بقية الحضور خاصة عند حصول فريقه على ركلة جزاء قبل انقضاء الشوط الأول بقليل، و بلوغ مسامع المتفرجين تسجيل الفريق المنافس في ملعب آخر هدف التقدم الآني الذي يجعله يتقدم على فريقه إن لم ينتصر.

وفعلا، فقد أهدر اللاعب المسدد لركلة الجزاء هذه المحاولة لتبقى النتيجة متعادلة، وهو ما أغضب الحضور وأحبط عزائمهم حينها - لكنهم كانوا يؤمنون أن فريقهم بإمكانه التسجيل والانتصار فيما تبقى من وقت للظفر بالهدف المنشود بكل تأكيد -.

لكن رامي لم يتحمل هذه الخيبة، فتصبب عرقا، ارتفعت حرارته فجأة، احمر وجهه، شاح ريقه وشحب وجهه، أغمي عليه وسقط على من يجلسون أمامه من الناس، مما استوجب تدخل رجال الإسعاف لمحاولة إنقاذه بعد فض تجمهر الحاضرين حوله - وقد استغل أحدهم هذا الموقف ليسرق هاتف المُصاب ونقوده بكل حرفية وسرعة ولم يتفطن إليه أحد وهرب عن الأنظار بسرعة -.

وبعد إجراء الإسعافات الأولية وإعطائه بعض المسكنات والأدوية في انتظار عودته للطبيب في أقرب وقت ممكن، جلس رامي مجددا في مكانه للتشجيع والغناء مع بقية الجماهير، ولم يتفطن إلى عملية السرقة.

لم يبق من وقت المباراة غير دقائق معدودة والفريق المحلي عاجز عن التهديف، وبالتالي التفريط في لقب البطولة إلى الفريق المنافس إلى حد الآن، حتى قدم أحدهم إلى رامي - لا يعرفه - والدموع تسقي تجاعيد وجهه وجراحه، مطأطأ الرأس ومضطرب الكلام والنطق وهو يقول بصوت عال حتى يسمعه رامي وفي يده هاتفه ونقوده التي سلبه إياها سابقا:

- أنا متأسف أيها الشاب، فقد سولت لي نفسي أن أسرقك وأنت مغمى عليك.

- (رامي لا يصدق ما يسمع ويرى، ولا يفهم ما يدور حوله وقد بحث عن هاتفه في جيب زيه الرياضي ولم يجده) هل استيقظ ضميرك وشعرت بالذنب؟ (مستهزئا ومحتقرا مخاطبه، مستعدا لضربه والنيل منه قبل تسليمه إلى الأمن بمساعدة مرافقيه الذين كانوا يتابعون هذا المشهد بانتباه شديد)، أم استعصى عليك فك شفرة الهاتف وكلمة عبوره

- (مقاطعا بشدة، صائحا في وجهه وهو يمسكه بكلتا يديه حتى لا يغشى عليه مجددا) بل تلقيت مكالمة هاتفية مستعجلة، فأجبت مكانك ليقع إعلامي أن أمك (يسكت قليلا وقد لاحظ تغير ملامح مخاطبه) قد تعكرت حالتها الصحية (أخفى عنه خبر وفاتها، لكنه أشار إلى أحد مرافقيه ليعلمه بالأمر) ويجب عليك العودة فورا إلى البيت

فلم يسمع رامي باقي كلام مخاطبه حتى رأيته يتخطى الجماهير ويقفز فوقهم، يبعدهم عن طريقه بقوة ويدهس من يعترض طريقه دون رأفة أو رحمة، يبكي ويصيح ويقول عاليا "سامحيني أماه، سامحيني فقد آثرت الرياضة على البقاء إلى جانبك، تماسكي وانتظريني حتى ألقاك وأحصل منك على الرضاء والقبول..."

وأسرع في اتجاه بيته ولم ينصت لأصوات مرافقيه وهم يحاولون تهدئته وتماسكه، مرافقته،مساعدته على الوصول إلى البيت عن طريق امتطاء سيارة أحدهم - وقد علموا بموت أم رامي واستحال عليهم إخباره بذلك خشية رد فعله وتأثير ذلك على صحته -...

وكان رامي أثناء هذه المسافة يستعين بذكرياته مع أمه، فيستحضر كيف كانت تمزح معه، تداعبه،تربت على كتفه وشعره، تغازله،تبادله المشاعر والأحاسيس الفياضة حتى لا يشعر بالوحدة والملل وقسوة الجنس الآخر عليه ورفضه له لأنه قبيح الوجه والمظهر وحتى السلوك والكلام ...

يتذكر كيف كانت تضحي بنفسها دون تردد أو تفكير، وتقف أمامه لتحميه من بطش والده وضربه المبرح له كلما قام بعمل موحش أو شر مؤكد - وما أكثرها-.، وغيرها من الذكريات التي لا تحصى ولا تعد كما يراها رامي.

وما إن وطأت قدماه نهج منزله حتى بدأ الناس يقولون له بلكنة حزينة "البركة فيك... إنا لله وإنا إليه راجعون.... اللهم اغفر لها وارحمها وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنة ...." ، ورأى الكراسي مصففة أمام المنزل، وصوت المقرئ عبد الباسط عبد الصمد يصدع ويتلو ما تيسر من القرآن الكريم، حتى تيقن أن أمه لم تنتظره، لم تمهله فرصة الاعتذار ونيل رضاها، لم تنظر له نظرة أخيرة...، بل إنها غادرت بعد أن غادرها وبجل فريقه الرياضي عليها وهو يعلم أنها تحتضر....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

صَمتٌ فيه الجوابُ بقلم الخضر مدبولي

( صَمتٌ فيه الجوابُ) من اشعار /الخضر مدبولي  ********************** أسودٌ وقد صاحت عليها كلابٌ                ويَنْعِقُ من خلفِ الصقورِ غُرا...