وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحي
*********************
الترحال، والنوى، ومفارقة الديار، والتغرب بين الأصقاع المتباعدة طلبا للرزق أو العلم أو فراراً من الحروب والفتن، و طلباً للأمان كحال الغالبية من أبناء شعبنا المنكوب في هذه الآونة أوحتي السفر لمجرد المتعة والابتهاج والاستكشاف، كم ألهم الأدباء والشعراء، والمفكرين، وأثار قرائحهم، و خلف كماً مقدراً من أدباء وشعراء المهاجر، ومنحنا منتوجاً ضخما من أدب التسفار، وقد كان للرحالة القدماء منهم والمحدثين علي حد سواء فضلاً كبيراً في كشف أستار بقاع بعيدة المسافات وعرة الدروب ، و أبانوا من خلالها تجاربهم الثرية في سبرأغوارها،وصوروها لنا في متونهم الخالدة كرأي العين وحكوا لنا عن غرائب مالاقوه في أسفارهم، وعجائب ما مروا به من تلكم البقاع، بل ونقل بعضهم من تجارب الآخرين ما أفاد ونفع به الله البلاد والعباد، وقد كانوا جسوراً أسهمت في رفد التلاقح بين الشعوب، وتداول المفيد من ثقافاتها وعلومها ونظمها وآدابها، بل وحتي لغاتها، والسفر يراه البعض متعة وبهجة مع ما توافر فيه من سبل الراحة في ظل تطور وسائله في عصرنا الحديث وما توفر بها من معينات السفر وميسراته، مقارنة بما كان عليه الحال في سابق الأزمنة والعصور،حيث كان السابقون يعانون أصناف المشقة والعناء في صعوبة السفر ووعثائه ويقضون الأزمنة الطويلة في قطع مسافات تقطعها الوسائل الحديثة في ساعات بل وحتي دقائق معدودة ، ولك أن تتصور معاناة المسافر في سفره عبر الناقة من الحجاز إلى الشام مثلاً، أو من اليمن إلي جزيرة العرب، في قوافل التجارة وخلافها، لدرجة وصف النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه قطعة من العذاب، فقد روي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه، وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره، فليعجل إلى أهله" ، متفق عليه.
وقال بعض من اشتط في وصف شدة عناء السفر في ذلك : "بل العذاب قطعة من السفر"
غير أن للأسفار مع مشقتها ووعثائها وصعوبتها فوائد لا تحصى، ولا تعد، وعلي الرغم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لعناء السفر بأنه قطعة من العذاب إلا أنه أبان في حديث آخر بعضاً من منافع السفر، ومحاسنه، فقد صح عنه أيضاً صلوات الله وسلامه عليه قوله فيمارواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سافروا تصحوا وتسلموا."
وهذا الحديث يبين شيئا من فوائد السفر، قال المناوي في فيض القدير عند شرحه لهذا الحديث سافروا تصحوا وتغنموا: قال البيهقي: دل به على ما فيه سبب الغنى، ومما نسب للشافعي قوله:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا * وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة * وعلم وآداب وصحبة ماجد.
الحديث عن الأسفار حديث شائق،ماتع، ولا تتسع هذه العجالة للإحاطة بموضوعه، ولكن لا بأس بأن نختم المقال بطرفة من طرائف الأعراب في السفر فقد حُكَي أن أعرابياً نوى السفر ، و كانت له امرأة تبغضه، ويسء معاملتها، فلما خرج من بيتها في سفرته ألقت خلفه نواة وقالت :"نوى سفرك" أي بعد وطال، ثم ألقت خلفه حصاة وقالت " و حاص أثرك" أي اختفي واندثر، ثم ألقت خلفه قطعة قماش بالية(خرقة)، وقالت :"و انقطع خبرك"، و هذا غاية في البغض، و طلب المفارقة، ويقابله ما ورد في قصة الشاعر البغدادي "بن زريق" الذي نوي السفر من بغداد، فذرفت زوجته التي كان يحبها وتحبه دمعاً غزيراً وبذلت جهداً خارقاً لإثنائه عن مفارقتها، لكنه كان قد حزم أمرسفره بسبب ضيق ذات يده وفقره وصعوبة معيشته في بغداد ، فكبت شجونه في صدره وغادر آسياً حزيناً لفراقها غير أن "المعايش جبارة" كما يقول أهلنا، وبعد وصوله لبغيته، وفي قصة طويلة السرد مات صاحبنا في نهايتها كمداً لفراق محبوبته وأرضه، وعُثر تحت وسادته علي قصيدته الهائية الأشهر في تاريخ الشعر العربي والتي ضمنها قوله :
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذبُ اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ
عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ.
وله قصة شائقة سنتعرض لها في مقال لاحق بإذن الله.
رد الله غربة أبناء الوطن الأشراف من النازحين، واللاجئين، والمهجرين قسراً، ممن كان بودهم أن يودعهم صفو الحياة، ولا يَدعون أرضهم ونيلهم، وأحبابهم، رد الله غربتهم.
أسامه منصور عبدالرحمن

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق