الجمعة، 3 أكتوبر 2025

الكتاب السحري ومملكة العنقاء بقلم نور شاكر

الكتاب السحري ومملكة العنقاء
قصة قصيرة 
بقلم: نور شاكر 

كانت نور فتاةً عادية، لا تختلف عن آلاف الفتيات؛ تقضي أيامها بين هدوء المنزل وأحلام اليقظة البسيطة

 لكنّ حياة نور العادية كانت على موعدٍ مع اللاعادي في ذلك اليوم الباهت، بينما كانت تتجوّل بين أروقة بيتها الصغير، الذي تعرف زواياه جيدًا، عثرت صدفةً على كتابٍ غريب متكئ في زاوية مظلمة ومُهمَلة خلف خزانة الكتب القديمة في غرفتها

كان غلافه سميكًا قاتم اللون، وكأنّه مصنوعٌ من جلد تنين قديم، وعليه نقوش غامضة محفورة بعناية، تبدو كرموزٍ لم تُفكّ شفرتها قط

 قبضت نور على الكتاب بفضولٍ ممتزجٍ بالرهبة لكنّ المفاجأة كانت حين فتحته: لم تجد بداخله أي صفحة مكتملة، بل بياضٌ ممتد بلا كلمات، كأنّه ثلجٌ أبديّ لم تطأه قدم

وما إن مدّت يدها، بمسٍّ متردد، لتقلب أولى أوراقه الفارغة، حتى انبعث منه دوّار سحريّ لم تشعر مثله من قبل لم يكن دوارًا للرأس، بل دوارًا للوجود ذاته، كأن زوبعةً من نورٍ ورياح خرجت من أعماقه، جذبت نور بقوةٍ لا تُقاوَم شعرت بأنّ الجاذبية نفسها قد انعكست، وأنّ الهواء حولها أصبح كثيفًا ومغناطيسيًا 

لم تشعر بنفسها إلا وهي تُساق داخل الكتاب، كأنّ صفحاته الخالية تحوّلت إلى فضاءٍ مفتوح ابتلعها في لحظةٍ خاطفة

حين فتحت نور عينيها من جديد، تلاشى دوار السحب، ووجدت نفسها في عالمٍ عجيبٍ لم ترَ مثله قط؛ عالمٌ يبدو أنّه مُعلَّق بين الأرض والسماء

كانت تتنفس هواءً نقيًا برائحة الياسمين والنجوم المتلألئة، النجوم نفسها كانت تتدلّى قريبة، كأنها مصابيح ضخمة تُضاء لها وحدها، يمكن ليدها أن تلمسها لو رفعت ذراعها. تحت قدميها، لم تكن هناك أرضٌ عادية، بل مروج بيضاء تمتد بلا نهاية، كأنّ الأرض صارت مرآةً من نور تعكس السماء

في ذلك الأفق الغامض الساكن، سمعت نور صوت خفقان أجنحة عظيمة ومع اقتراب الصوت، ارتفعت درجة حرارة الجو، وكأنّ صيفًا مفاجئًا قد حلّ

وإذا بـ العنقاء تهبط أمامها، طائرٌ أسطوريّ مهيب بحجم حصانين مجتمعين كان ريشه يشتعل على الأطراف باللهب الذهبي، وتلمع عيناه بوميض نارٍ حارقة لكنها ليست مدمرة

ارتجف قلب نور من الخوف، وتملّكها شعورٌ بأنّها النهاية؛ أن النيران ستبتلعها كما ابتلعتها صفحات الكتاب المجهولة. تراجعت للخلف، مستعدةً للركض في تلك المروج البيضاء

 اللا متناهية

لكنّ المفاجأة كانت أنّ العنقاء لم تؤذها على الإطلاق اقتربت منها ببطء، بخطواتٍ موزونة كأنها تقدّم نفسها في رقصةٍ سماوية. ولَمّا لمست ريشها المشتعل، لم تحترق نور، بل شعرت بـدفءٍ خفيف يمرّ بجانبها، كنسيمٍ دافئ في ليلة شتاء شيئًا فشيئًا، أدركت نور أنّ هذه الطائر الجبّارة ليست عدوًا ينتظر التهامها، بل صديقةً وحارسة أتت لتكشف لها سرّ هذا العالم

مدّت نور يدها بحذرٍ شديد، ولامست جناح العنقاء

لم تُحرقها النيران، بل شعرت بأنّ الدفء تسرّب إلى روحها، يُحييها بدلاً من إحراقها، في تلك اللحظة، تشكّل صوتٌ خفيّ في عقل نور، ليس صوتًا مسموعًا، بل إحساسًا عميقًا بالمعرفة

همست العنقاء (أو هكذا شعرت نور)، تكشف لها سرّ هذا العالم الغامض:

"يا نور، هذه النيران لا تُحرِق إلا الغرباء، أولئك الذين يحملون في قلوبهم البرد والجفاء

هي نيرانٌ تكشف القصد، لا الجسد

أمّا القريبون من القلب، أمثالك، فإنّ دفء المودّة الكامن في روحك يحوّل هذا اللهب إلى أمانٍ مطلق، وحمايةٍ لا تنطفئ"

فهمت نور أنّ الكتاب الأبيض لم يكن خاليًا، بل كان ينتظر روحًا نقيةً لتُملأ صفحاته. ومنذ ذلك الحين، صارت العنقاء تلازمها، تضيء المروج حولها بلهيبها الذهبي، وتكشف لها عن مسارات مخبأة بين النجوم

أدركت نور أنّ المقربين حقًا، الذين تحمل لهم الروح مودةً صادقة، لا يمكن أن تلمسهم نيران الحقد أو الكراهية

 نيران العالم لا تمتد إلا إلى أولئك الغرباء عن الروح، الذين لم يزرعوا في الأرواح غير البعد والجفاء، والذين لم يعدوا أهلًا لحرارة الأمان

 في عالم العنقاء، كانت النيران هي ميزان القلب الصادق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

إلى من سألني بقلم عبدالرحيم العسال

اخميمي ( إلى من سألني : هل انت اخميمي؟)  =========================== نعم يا عم أخميمي. وكم ازهو به وطنا لنا إرث وتاريخ. ونيل...