الأربعاء، 29 أكتوبر 2025

إمبراطورية الأبالسة بقلم ماهر اللطيف

إمبراطورية الأبالسة

بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳 

سمعتُ خُوارًا، نهيقًا، هدهدة، زمارًا، صفيرًا، طنينًا، نباحًا، مواءً، فحيحًا، ضَغيبًا، شحيحًا، صهيلًا، عواءً، زمجرة، نقيقًا، زئيرًا...
رأيتُ نمرًا يفترس عجلًا، وأسودًا وفهودًا تتقاسم لحم جاموسة قرب الوادي بعد اصطيادها وقتلها. أبقارًا وأغنامًا وخيولًا تلتهم الأعشاب وورق الأشجار، ودجاجًا وسناجب تقتات ممّا يعترض سبيلها دون قيد أو شرط.

تقدّمتُ بخُطى ثابتة وحذرة، أتوغّل بين الأشجار والهضاب والصخور، أتلذّذ بصوت خرير المياه وانسياب الشلالات، بعذوبة وتناسق رقص النباتات وأوراق الأشجار وتلاعب الرياح بها، بتنوّع المناظر الطبيعية ومخلوقات هذه الغابة وسعيها الدائم لإشباع رغباتها وغرائزها وفق قانون الغاب الطاغي على هذا المكان...

وفجأة، وجدتني محاصرًا بمجموعات من الكوالا والكوكا والنعام والديك الرومي، وغيرهم من الحيوانات الغريبة من كل جانب، لم يتركوا لي مجالًا للهرب أو مغادرة المكان الذي بدأ يسوده السواد مع غروب هذا اليوم الخريفي المشهود.
ارتعدت مفاصلي، شلّ جسدي، تسمرت عيناي صوب هذا المشهد المرعب. ضاق نفسي، شحّ ريقي، تلعثم لساني، تعرّق بدني، وتسارعت دقات قلبي حتى تجاوزت سرعة الريح. تحنّط عقلي، وتوقّف الكون عندي، وتيقّنت من نهايتي الوشيكة حال حضور "ملك الغابة" ليقتصّ مني ويجعلني وجبة عشائه في لحظات.

لم أفكر حينها في أحد ولا في شيء سوى مشهد تقطيعي إربًا إربًا كرهًا دون رضا، نهاية مملكتي وجبروتي بعد أن كنت "ملكًا" بين قومي، أقودهم كما أشتهي وفق قوانيني الخاصة، أبيع وأشتري الممنوعات بشتى أنواعها، أسرق، أتحايل، أفتك، أقطع الطرق، أستولي على ممتلكات غيري، أدير شبكات الفساد والمتسوّلين بفضل "قطيعي" الذي يعمل عندي ويقتات من تجارتي.

كنت أكنز الأموال والعقارات دون جهد، أعيش عيشة الملوك رغم مطاردة الشرطة لي وتزايد بطاقات التفتيش يومًا بعد يوم.

قطع تفكيري ديكٌ رومي بصوته الأجشّ:
ما الذي أتى بك إلى مملكتنا في هذا الوقت؟

قالت نَعامة، وقد دفنت رأسها في التراب:
هل أضعت الطريق؟ أم جئت تستكشف المكان؟

صرخ كوالا وهو يقفز:
أظنه جائعًا يبحث عن مأكل ومشرب!

هتف كوكا ساخرًا بعد أن مسحني بنظرة فاحصة:
لا، إنه صياد آدمي جاء لينال منا جميعًا... لكن، أين سلاحك؟

أجبتهم بعد لحظة تفكير متصنّع:
جئت لأخبركم أن الأسود قرّرت القضاء عليكم الليلة، مستعينةً بالنمور الجائعة، بعد أن أصدر الملك أمرًا بتصفيتكم وقطع دابركم.

ضحكوا ساخرين من روايتي، لكنني تابعت تخويفهم وتحريضهم على الثورة والتمرّد والانقلاب على "قوانين الغابة"، أشجّعهم على التخلّي عن الوهن والخنوع، دون أن أجرؤ على مصارحتهم بأنني في الحقيقة فارٌّ من قوات الأمن التي تطاردني وتحاصر مملكتي.

نجحت خطّتي، فهاجت الجموع، وصاحت، وتمرّدت، لتكون فريسة سهلة للأقوياء الذين افترسوها حتى الشبع، جزاء غبائها وطمعها واندفاعها الأعمى وأحلامها التي تجاوزت قدراتها وإمكاناتها.

هربتُ بأقصى سرعة ما إن ابتعدوا، أطوي الأرض طيًا بحثًا عن الطريق الرئيس الذي يخلّصني من هذا الجحيم. لهثت، تعبت، أنهكني العرق والإعياء، حتى برز لي الطريق أخيرًا وقد ساد المكان قَتَامةٌ مخيفة، يخلو من البشر والحياة.

وما إن وطئت قدماي الطريق، حتى اخترق جسدي وابلٌ من الخراطيش، ففجّر بحارًا من الدماء، وسقطتُ أرضًا ألفظ أنفاسي الأخيرة، أقول بصوت متقطّع عوض الشهادتين:
"انهارت إمبراطوريتي بسرعة، فخسرت الدنيا والآخرة في لمح البصر...

فماذا سأقول لله؟ وبماذا أبرر ظلمي وفسادي؟
لقد كانت حقًّا..." إمبراطورية الأبالسة."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

إلى من سألني بقلم عبدالرحيم العسال

اخميمي ( إلى من سألني : هل انت اخميمي؟)  =========================== نعم يا عم أخميمي. وكم ازهو به وطنا لنا إرث وتاريخ. ونيل...