بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳
دون سابق إنذار، التفتُّ يمنة بسرعة، وكنت واقفًا وسط الناس أستعدّ لعبور الطريق حال تغيّر الإشارة المرورية، في صباحٍ عاديّ كغيره. هناك، وقعت عيني على شابة متوسّطة الجمال والقامة، سوداء الشعر والعينين والبشرة، لا تتجاوز العشرين من عمرها على ما أظن.
لم تعرني أي اهتمام، بل كانت غارقة في عالمها. أما أنا، فبقيت مسمَّر العينين فيها، كأنني أعرفها من زمنٍ بعيد، أو رأيتها في حلمٍ غامض. شيء في ملامحها أيقظ داخلي شعورًا لا تفسير له، لكنه كان قويًّا بما يكفي ليربكني.
من الغد، وفي الموعد والمكان نفسيهما، تكرّر المشهد ذاته، وكأن الزمن يرفض المضيّ. ومع تكرار اللقاءات، بدأتُ ألاحظ أن بعض المارة انتبهوا بدورهم إلى هذا التكرار الغريب، فزاد ارتباكي وتساؤلي: من تكون هذه الفتاة؟ ولماذا تجذبني إليها على هذا النحو؟
أهو حبّ من أول نظرة؟ أم أن بيننا قصة قديمة نسيها الزمن؟
قرّرت في اليوم التالي أن أواجه الأمر. وقفتُ في مكاني المعتاد، رحت أفتّش بعينيّ عنها حتى رأيتها. تلاقت النظرات، تبادلنا ابتسامة خجولة، فحيّيتها بإشارة من يدي فردّت التحية. تشجّعتُ واتجهت نحوها، وقلبي يخفق خشية ردّها.
وقفت إلى جانبها بعد أن ألقيت تحية الصباح وصافحتها. احمرّ وجهها، نظرت إلى الأرض، ولم تجرؤ على النظر في عينيّ. قلت بثقةٍ هادئة:
– اسمي نور الدين، موظّف ببنك، عمري ثلاثون سنة، أعزب، أنحدر من عائلة متوسطة الحال.
– (بصوتٍ خافتٍ متقطّع) تشرفنا، أيها السيد... ماذا تريد منّي؟
– في الحقيقة لا أدري، لقد انجذبت إليك منذ أيام دون أن أهتدي إلى السبب.
– (ضاحكةً بخجل وقد ازداد وجهها احمرارًا) ما هذا الهراء أيها الشاب؟ أتعنيني بمعاكسةٍ كهذه؟
– (متوتّرًا) ما قصدت معاكستك، وكل ما قلته صدقٌ لا شبهة فيه.
استمرّ حديثنا دقائق قليلة، تراوح بين التوجّس والانجذاب، بين الخوف والفضول، دون أن نصل إلى جوابٍ شافٍ. لكن شيئًا ما كان قد بدأ ينبت بيننا، شيء يشبه الألفة أو الطمأنينة.
ومع مرور الأيام، توطدت العلاقة، ونشأت بيننا قصة حبّ هادئة نقية رغم بعض الهنات والصعوبات العابرة في وجهات النظر والرؤى وغيرها. كانت تملأ قلبي سكينة، وتعيدني إلى نفسي.
وكلما التقيت بها، كانت الذاكرة تأخذني من يدي قسرًا، وتعيدني إلى وجوهٍ عبرت حياتي ثم أظلمت.
تطفو على سطح الوعي "شمس" بضحكتها العالية ولسانها الحاد، جميلة الملامح، قبيحة المعشر، مادية إلى حدّ الاشمئزاز. ثم "نهى" ، تلك التي كان رفاقي يلقبونها بـ"القنبلة" لجمالها الفاتن، لكنها كانت خاملة الإرادة، خاوية الداخل، مدلّلة إلى حدّ الفساد، وهو ما جعلني أنسحب من حياتهما دون رجعة ككل يوم من حياتنا.
وأعود من ذاك الحنين المسموم لأنظر إلى "كاملة" فأبتسم. مختلفة هي… مختلفة في اللسان والعقل والقلب. كأنها النسخة المنقّاة من كل تلك الخيبات القديمة.
كانت كاملة شبه كاملة فعلًا؛ عقل راجح، قلب نقيّ، لسان طيب، نوايا صافية، وتربية تنبض بالحياء والاحترام. فيها من الصفاء ما يطمئن القلب، ومن البساطة ما يورّث السكينة.
اختَرتها دون تردّد، رغم أنّها تكبرني بسنتين وكابدت الويلات سابقا من "آدم" من جهة، ومعارضة أهلها لهذه الزيجة لفارق العمر بيننا من جهة ثانية. تزوّجنا، فكانت الزوجة المثالية، الأم الحنون، الصديقة الوفية، والأخت التي لم تلدها أمّي.
لقد كانت ملاذي الأوحد، سكني وسندي، وطمأنينتي التي ما كنت أظنّ أني سأجدها في امرأة، وكنت كذلك عالمها الذي انفتح مجددا في وجهها بعد انطلاقها سابقا.
هي الحلم الذي صار وطنًا، والذكرى التي صارت قدرًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق