الأربعاء، 12 نوفمبر 2025

حين أزهرت الساعة الخامسة بقلم سامي المجبري

حين أزهرت الساعة الخامسة
بقلم: سامي المجبري

في صباحٍ غائم من أيام الربيع، كان "أمجد" يجلس في مقهى صغير يطل على نهرٍ صامت في مدينةٍ لا يعرفها أحد كما يعرفها هو. كان يحمل في يده دفتراً قديماً يدوّن فيه ملاحظاته عن الحياة، عن الناس، وعن قلبه الذي ظل مغلقًا لسنوات طويلة بعد تجربةٍ فاشلة علمته أن الحبّ لا يُنال بالعجلة ولا يُمنح بلا فهم.

دخلت "هناء" المكان بخطواتٍ واثقة، تبحث عن طاولةٍ قرب النافذة لتكتب شيئًا هي الأخرى. كانت تحمل في يدها كتبًا عن الفلسفة والتربية، وفي ملامحها وقارٌ ممزوج ببراءةٍ لافتة. حين رفع أمجد رأسه صدفةً، التقت عيونهما في لحظةٍ خاليةٍ من التكلّف، وكأن الزمن توقف ليعطي تلك النظرة معناها الكامل.

جلس كلٌّ منهما على طاولةٍ منفصلة، لكنهما تشاركا ذات الصمت وذات الاهتمام بما يجري حولهما. بعد دقائق، سقط قلم هناء على الأرض، فالتقطه أمجد ومدّه إليها بابتسامةٍ بسيطة. شكرته، ثم قالت بلباقة:
– يبدو أننا نكتب في الوقت نفسه، هل أنت كاتب؟
– ربما، أو مجرد رجلٍ يدوّن كي لا يضيع صوته في الزحام. وأنتِ؟

أجابت وهي تضع خصلات شعرها خلف أذنها:
– أكتب ما أشعر به حين تضيق المسافات بيني وبين نفسي.

ضحك أمجد وقال:
– هذا تعريف جميل للكتابة.

ومنذ تلك اللحظة، بدأ حديثٌ بسيطٌ صار أطول مما توقّعا، وصارت فنجانة القهوة تُملأ للمرة الثانية والثالثة دون أن يدركا كيف مرّ الوقت. كان الحوار بينهما يشبه رقصة فكرية متوازنة؛ لا أحد يطغى على الآخر، ولا أحد يفرض رأيه. كان الاحترام أول ما جمع بينهما، والصدق ما جعل الحديث يستمر.

بعد أيام، صارت اللقاءات تتكرر دون موعدٍ محدد. لم يكونا يبحثان عن علاقةٍ بالمعنى الشائع، بل عن رفقةٍ فكرية تمنح الروح معنى جديدًا. كان أمجد يجد في هناء عقلًا يستفزه للتأمل، وكانت هناء تجد فيه رجلاً يفهم أن الحنان ليس ضعفًا، وأن الاستماع فنّ لا يتقنه الجميع.

وذات مساء، حين ألقى المطر ظلاله على المدينة، قال لها أمجد:
– هل تؤمنين أن اللقاءات القدرية تُزرع في القلب قبل أن تُكتب في الزمن؟
ابتسمت وقالت:
– أؤمن أن الله حين يريد شيئًا يجعل الدروب تتقاطع مهما تباعدت.

ومنذ تلك الجملة، بدأ قلباهما يقتربان في صمتٍ نبيل. لم تكن هناك وعودٌ كبيرة، ولا رسائل طويلة، بل كانت هناك أفعال صغيرة تنمو كزهورٍ بين الحصى: سؤالٌ في الصباح، اهتمامٌ في المساء، دعاءٌ خفيّ في الغياب.

مرت الشهور، وبدأ الناس من حولهما يلاحظون أن بينهما شيئًا يشبه الحب، لكنه مختلف؛ بلا ضجيج، بلا غيرةٍ عمياء، بلا تملك. كانت صداقتهما قائمة على أن كلًّا منهما يمنح الآخر مساحة ليكون نفسه، وأن العاطفة لا تُقاس بعدد الكلمات، بل بصدقها.

وفي اليوم الذي قرر أمجد فيه السفر لإتمام دراسته في الخارج، جلسا على ذات الطاولة في المقهى نفسه. كان الغروب يلون السماء بلونٍ ذهبيّ حزين. قال أمجد بهدوء:
– سأغيب عامًا، وربما أكثر.
ردت بابتسامةٍ تخفي اضطرابها:
– الغياب لا يُخيف من يعرف أن القلوب لا تُقاس بالكيلومترات.

ثم أخرجت من حقيبتها ساعةً صغيرة، وقد نُقش على ظهرها: “حين تزهَر الساعة الخامسة، تذكّر أن ثمة قلبًا يدعو لك.”

ابتسم أمجد وقال:
– الخامسة موعدنا إذًا.
وغادر المدينة.

مرت الأيام، وكان كلٌّ منهما يعيش حياته بجدٍّ وصبر، لكن الساعة الخامسة من كل مساء كانت تجمعهما ولو في الخيال؛ يرفع أمجد نظره إلى السماء، وتغلق هناء كتابها وتنظر إلى الأفق، وكأن الزمن يسجد للحب النقي.

وبعد عامٍ كامل، عاد أمجد وقد تغيّر في المظهر لا في الجوهر. أول ما فعله هو أن ذهب إلى المقهى ذاته، فوجد أن المكان أغلق أبوابه. بحث عنها طويلًا حتى وصل إلى مدرسةٍ في أطراف المدينة، وهناك رآها تُعلّم الأطفال بابتسامةٍ واسعة.

حين رأته، توقفت الكلمات في فمها، لكن عينيها قالت كل شيء. اقترب منها وقال بصوتٍ متهدج:
– الساعة الخامسة لم تتأخر يومًا عني.
أجابت وهي تدمع:
– لأن الدعاء كان أسرع من المسافات.

وفي ذلك المساء، جلسا من جديد، لكن هذه المرة كان بينهما وعدٌ صريح: أن يستمرّا كما هما، بصدقٍ واحترامٍ وطمأنينةٍ لا تشبه حبّ أحد. وبعد أشهرٍ قليلة، أعلنا زواجهما في حفلٍ بسيطٍ في حديقةٍ صغيرة، تحت شجرةٍ كانت تزهر تمامًا عند الساعة الخامسة.

لم يكن زواجًا أسطوريًا ولا حكايةً تملؤها الصدف الخرافية، بل قصةً واقعيةً لعقلين التقيا قبل أن تتلاقى القلوب، فصار الحب بينهما ناضجًا مثل ضوءٍ يأتي في وقته.

وفي كل عام، حين تحلّ الذكرى الأولى لذلك اليوم، يضع أمجد ساعة هناء على الطاولة، ينظر إليها ويقول:
– كلما أزهرت الساعة الخامسة، أدركت أن الحب لا يحتاج إلى معجزات، بل إلى قلبٍ يفهم، واحترامٍ لا ينكسر.

وهكذا مضت حياتهما معًا؛ بيتٌ مليء بالكتب والضحكات، وحديثٌ مسائيٌّ عن أحلامٍ صغيرة تُزرع في الغد. لم تكن حياتهما خالية من المتاعب، لكنها كانت مملوءة باليقين أن من يجتمعان على الاحترام لا يفترقان على ضعف.

وفي نهاية المطاف، كتب أمجد في دفتره القديم:
"تعلمت من هناء أن الحبّ ليس وعدًا بالخلود، بل التزامٌ بأن نكون أوفياء للحظة التي جمعتنا، وأن السعادة لا تصنعها الصدف، بل النوايا الصافية التي نزرعها في قلوب بعضنا."

وعند الساعة الخامسة من كل مساء، كانت الزهرة الصغيرة أمام نافذتهما تتفتح، وكأنها تهمس للعالم كله:
إن القلوب التي تُحب بصدق لا تعرف النهاية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

إلى من سألني بقلم عبدالرحيم العسال

اخميمي ( إلى من سألني : هل انت اخميمي؟)  =========================== نعم يا عم أخميمي. وكم ازهو به وطنا لنا إرث وتاريخ. ونيل...