بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳
سكن في حيّنا مؤخرًا شابٌ وسيم في إحدى الشقق المعدّة للكراء؛ طويل القامة، مفتول العضلات، حسن المظهر والهندام، طليق اللسان، طيب المعاشرة والتواصل، يحترم الصغير قبل الكبير، خدوم، حسن الخلق.
بيدَ أنّه كان مجهولَ الهوية بالنسبة إلى الجميع؛ لم يُرَ له زائرٌ، أو مرافق، أو صديق، أو فردٌ من العائلة. كان وحيدًا يقوم بكل شيء بنفسه.
ومما زاد الأمر غرابةً أنَّه لا يعمل على ما يبدو؛ يقبع في الحي من الصبح إلى ساعة متأخرة من الليل إمّا أمام العمارة التي تقطنها شقته، أو في المقهى، أو في المطعم، أو بين المتاجر المنتشرة في كل مكان.
بمرور الوقت تغيّر «عادل» —لم يعد اسمًا على مسمّاه— فصار عنيفًا، بليدًا وركيكًا. تجنّبه الجميع، وانتشرت عنه الشائعات: يفتكُّ بحاجات الناس عنوةً، يتحايل، يسرق، ويقوم بأعمال مشبوهة كبيع الممنوعات خلسة، بعد أن عرف كل صغيرة وكبيرة عن المنطقة.
فتجنّبه السكان ونفروا منه، كرهوه واتقوا شرّه قدر الإمكان، لأنّه كان دائمًا يكرر عند كل شجار أو مواجهة: «أنت لا تعرفني من أكون. باستطاعتي أن أنهي وجودك في الحال؛ إما بقتلك أو الزجّ بك في السجن. لن أخسر شيئًا —مجرد مكالمة وأرسلك خلف الشمس - .» وعبارات من هذا النوع زرعت الخوف والريبة والتردّد في قلوب الجميع.
تطوّر الأمر حتى بات الحي مرتعًا للمجرمين والمنحرفين المتعاملين مع عادل ومساعديه؛ كثرت فيه الجرائم والسرقات، ونما سوق الممنوعات، فاستنجدنا جميعًا بالشرطة والسلطات المعنية التي شرعت فعلاً في البحث ومراقبة المكان للقبض على هؤلاء المارقين عن القوانين الوضعية والشرعية.
في الأثناء، صادف أني كنت في إحدى القرى الجبلية البعيدة عن مدينتي لأوزّع منتجات الشركة التي أعمل بها ذات يوم. تعرّفت إلى تاجرٍ أصرّ على استدعائي للغداء، وأكرمَني إكرامًا يليق به وبمنطقته.
تجاذبنا أطراف الحديث من هنا وهناك، حتى خلَص بعد أن عرف مدينتي ومحل سكناي إلى أن يضرب بكفه على جبينه كأنه تذكّر أمرًا جللًا، ثم فتح حقيبته وأخرج صورةً شمسية حديثة كان يخبئها فيها:
- «أردت أن أسألك أيها الضيف الكريم، هل تعرف هذا الشخص؟ ألم يعترض سبيلك يومًا في مدينتك؟ فقد قيل لنا إنه موجود هناك.» -
تفحصت الصورة طويلاً، ثم قلت له:
- «إنه عادل، جاري يسكن في نفس الحي الذي أقيم فيه.»
حمد الرجل الله وشكره، وقال:
- «اسمه ناجي، وليس عادل. نبحث عنه هنا منذ سنوات.» وأشار بيده إلى الناس حوله. ثم انفجر بالبكاء وهو يضيف: «إنه أخي. تحايل على الناس، سلبهم أموالهم وممتلكاتهم، نكل بهم؛ فعل كل شيء بدون سبب.» تنهد ثم ابتلع ريقه.
واصل الحديث وأخبرني أن ناجي انقطع مبكرًا عن الدراسة، وأن الإدمان غيّر حياته بعدما كان لا يكاد يغادر المسجد؛ انحرف، عاق والديه، تمرد على الجميع. وما أن تأكّد أن أهل قريته لم يعد لهم ما يَطمع به، نزح إلى القرى المجاورة، ثم إلى أخرى، حتى حل به الترحال إلى تلك المدينة.
وفي تلك الحقبة كانوا يرجعون إلى الناس ما يمكن إرجاعه درءًا لأي عواقب محتملة، إلى أن وصلوا إلى عتبة الفقر والفاقة فلم يعطوا الدائنين حاجاتهم.
عدت إلى الحي ليلًا منهكًا من السفر وعذاب السياقة وتعقيدات الطرق، فاعترضني ناجي —أو «عادل» كما سمّوه هنا—، هددني بسلاح أبيض وأمرني أن أفرغ جيبي وأعطيه كل شيء دون مقاومة أو مشاكسة.
تذكرت حينها كل ما دار بيني وبين منجي، أخيه، خاصة ما يتعلق بهذا الابن العاق؛ تبسمت رغم مأساة المشهد وقلت له: «لن أعطيك شيئًا.» كرّر عبارات التهديد المألوفة، ثم ركلني وأمرني أن أجلس على ركبتي ليُفتّشني وينتزع مني كل ما عندي —ففعلت.
ما هي إلا ثوانٍ حتى حاصرته قوات الأمن، قبضوا عليه متلبسًا، كبّلوا يديه بالأصفاد واقتادوه نحو شقته لتفتيشها أولًا قبل اقتياده إلى المخفر. وكنت أنا أسردُ قصته بصوتٍ عالٍ أمام الجميع، أخبرهم بحقيقة هذا الشخص الذي كان يهددني ويقول: «سوف أقتلك أيها الوعد! أنت لا تعرفني جيّدًا، لا تعرف من أكون.»
في الصباح التالي قدم منجي باحثًا عن أخيه. علم بما حصل، لامني على فعلي حتى امتلأ قلبي بالذنب؛ بكى واحتقرني ووصفني بأقبح النعوت، قبل أن يهرع إلى مركز الشرطة يتعقب أثرَ الناجي.
جلستُ في مكاني طويلًا، أحدّق في الشرفة التي احتضنت ظله، وفي الحيّ الذي لم يعد كما كان. تساءلت بيني وبين نفسي: هل أخطأت حين نطقت بالحقيقة؟ أكان الأجدر أن أصمت؟ أم أن الصمت عن الحقّ، كما يقولون، شيطانٌ أخرس؟
لم أجد جوابًا شافيًا. ظلّ السؤال يطنّ في رأسي كذبابة عنيدة، وذاك الظل فوق الشرفة لم يزل ماثلاً في مخيلتي، يتمايل كلما مرت ريحُ الندم، كأنّه يذكّرني بأنّ الصرح مهما بدا شامخًا، قد يكون من ورقٍ ، هشًّا في أوّل عاصفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق