صباح الجمال والفن والحكمة
*فنجال* فلسفة الفن والجمال
رماز الأعرج ,
مقدمة كتاب *فنجال* , هو فرع علم الجمال والفن في فلسفة الشيفرة الكونية , الكتاب من تأليف رماز الأعرج , إنتاج مركز *سديم* للدراسات الفلسفية والعلوم الإنسانية .
الكتاب سيصدر قريبا عن دار النشر الفلسطينية الأصيلة طوقان للنشر الرقمي
(فنجال)
**** فلسفة الفن والجمال ****
مقدمة
منذ القديم عرف الإنسان الجمال وتأثر به ثم أنتجه كقيمة روحية نتجت عن تفاعل الإنسان مع الطبيعة وانعكاسها في وعيه , وبذلك أعاد الإنسان إنتاج القيم الجمالية بإرادته ووعيه وأعاد تشكيلها بطريقة مشابهة للطبيعة ولكن من إنتاجه وليس نتاج الطبيعة , لقد تدخل الوعي الإنساني هنا ليشكل ( الانسجام و الإيقاع والتوازن والتناقضات ودمجها في وحدة متناسقة) مما يثير الدهشة للعقل حين إدراك هذه الغرابة في تكوين الواقع الجمالي , هذا بالتحديد ما يفعله الإنسان حين ينتج شيء جميل , وهذا أيضاَ من أسرار تذوقنا الجمالي , والدهشة الإيجابية والغرابة والتجديد من أهم مشاعر المتعة الجمالية وتذوقها , ونعتبرها من أهم مقومات الجمال ( الطبيعي و الاجتماعي ) فالجمال أشكال ووجوه متعددة كما سنرى في هذا البحث للجماليات .
فهناك عدة مستويات للوجد الجمالي منها الطبيعي المحض ونطلق عليه (الجمال الموضوعي) والجمال الانعكاسي التفاعلي ( الذاتي في الجمال) وهذا مشترك بين الإنسان والحيوان , وهنا تبدو الغرابة في إقحام الحيوانات في مفهوم الجمال وتذوقه وإنتاجه . إن هذا ليس إقحام ولا اعتباط , إنها غرابة الواقع ذاته وسنرى في هذا البحث الغريب الأطوار وبالدليل القاطع أن الحيوانات تتأثر بالجمال وتتفاعل معه وتنتجه أيضاً . وهذا من قضايا التجديد في فلسفة الجماليات من خلال رؤية الشيفرة الكونية للجمال وأصوله ومسار تطوره كظاهرة طبيعية أصلاً , وترتقي في تفاعلها الطبيعي مع حركة أشكال الوجود وتنوعها , لقد بقي مفهوم الجمال والفن الألف السنين مقتصراً على الجمال الاجتماعي , وهذا من أهم مصادر العجز الذي عانته الفلسفة الجمالية عبر التاريخ .
لقد أدى حشر مفهوم الجمال بالذات الواعية الإنسانية إلى تغيب كافة أبعاد الجمال وقطعه عن أصوله , وحوُله إلى شيء خارج عن الطبيعة ولهذا تسمى القدرات الذهنية الإبداعية والجمالية (موهبة ) وهي خاصية تمنحها قوة خارج الطبيعة , لقد أدت هذه الرؤية إلى بقاء الوعي الإنساني عاجزاً عن تفسير الظواهر الجمالية وأسبابها عبر تاريخ الفكر الإنساني , إن كارثة الوعي البشري تكمن في معتقدات البشر ذاتها بحيث ترى ( الكون صنع من أجل الإنسان ورغباته) وبهذا يصبح العالم بأسره مسخراً له وحسب معتقداته , لقد أنسى الغرور الإنسان من هو وراح يضيف على ذاته صفات مقدسة منحها لذاته من قبل ألاه صنعه على هواه والتلبية رغباته الجامحة .
تهدف هذه الرحلة على دروب الجمال إلى الكشف عن الجذور الحقيقية للجمال ليس في المجتمع وحسب, بل وفي الطبيعة وفي أي مكان وشكل كان , إن غربلة المعارف البشرية قد أصبحت ضرورة ملحة لا بد من تنشيطها بأسرع ما يمكن (الزمن يسير أسرع مما نشعر به ) ولا بد من ولادة الجديد وإعادة صياغة الفكر الإنساني وعدم تركه لقوى الظلام والتخلف والعنصرية والاستعمار تصيغه , ومن خلاله تصيغ الحاضر والمستقبل (وكفى الشعوب جهلاً وترك مستعبدها يصنع وعيها الفردي والجمعي) إن الكثير من الشعوب قد أصبحت بحاجة إلى صدمة دماغية لتعيد لها توازنها الطبيعي في الرؤية للواقع و تفسيره (بغض النظر كانت واقعة تحت نظام سياسي مسيطر أو تابع ) فالنظام السياسي والديني يصنع الوعي الاجتماعي على هوى مصالحه وطبيعتها بما في ذلك القيم والمفاهيم الجمالية والأخلاقية والسلوكية .
إن الكشف عن جذور الجمال والتعرف على أشكال وجوده الأخرى والاعتراف بها ,, بل وأضافتها إلى مادة الجماليات النظرية سيغني المادة بقيمة إضافية كبيرة وواسعة ومساحة جديدة للبحث و الاكتشاف والجمالي المعرفي وبذلك تشمل المادة جوانب أساسية من أصل الجمال وجذوره الأصلية الطبيعية التي ما زالت ماثلة أمام أعيننا ولكننا لا نريد رؤيتها . بل نحن عاجزين عن ذلك بحكم ذلك المنظور الذي نرى الأشياء والعالم من خلاله , (فالإيقاع ولتجديد) من أهم معايير الجمال و(الانسجام والتناقض) و(المفاجأة والدهشة ) هذه جميعها تعتبر من ضمن معايير التذوق الجمالي ,,, وهذه العناصر جميعها موجودة في الطبيعة بوضوح لا يخفى على أي عاقل , وكل ما علينا فعله هو تغير رؤيتنا للأشياء والبحث عن القيمة الجمالية في موطنها الأصلي (الطبيعة) وسيقدم البحث الكثير من الأدلة الفاصلة على أصول الجمال والفن الطبيعية وأبعادها المختلفة العميقة مما يثبت أن الجماليات ليس مفهوماً إنسانياً بل هو جزء من الطبيعة والوجود تماماً كما نحن .
كما وسنثبت أيضاً أن الجماليات كظاهرة موجودة خارج وعينا, ووجودها غير مشروط بمعرفتنا لها فهي الأصل ولولا الوجود المسبق للجمال لما نشاء مفهوم تذوقه ولا يمكن منطقياً لأي ظاهرة أن تسبق أسبابها في الوجود,
لقد اختلف المفكرين منذ فجر الفلسفة حول مفهوم الجمال والفن والفارق بينهما, واختلط الأمرين لدى الكثير من الفلاسفة , وكذلك حول أصل الفن والجمال , وقد وصل البعض إلى اعتبار الجمال هو نوع من إرضاء الشهوات والغرائز ,,, وجهة أخرى تعتبر الجمال شيء مثالياً محض وخارج الطبيعة بحيث أن كل ما في الطبيعة في تغير دائم , لذلك اعتبروا أن الجمال الحقيقي ليس في الطبيعة بل في الفكرة الثابتة القائمة وراء الطبيعة التي صنعت الطبيعة وهي وحدها الثابتة , وبذلك أصبح الجمال ذات طابع صوفي مقدس بعيد عن الإدراك الإنساني ومن أبرز أصحاب هذه الرؤية القديمة الحديثة أفلاطون بل إن البشر عرفوا الجمال ووضعوا له اله جمالية , ولدى الفراعنة هناك آلهة فن وجمال وليس آلهة الجمال عند اليونان سوى اقتباس عن الفهم التاريخي القديم لمفهوم الجمال .
هذه بعض الأفكار حول ما طرحته الفلسفة في بواكيرها , وسنأتي على ذلك بالتفصيل في مكانه .
لقد شكل مفهوم الجمال إحدى التساؤلات الأساسية في الفلسفة , بحيث كان جلياً منذ البداية أن الفن والجمال هي جزء من الوعي الإنساني الفكري والروحي , وبذلك شكلت منذ البداية جزء هام من الفلسفة والمعارف الإنسانية , وصنع الكثير من الحضارات آلهة خاصة بالفنون والجمال , وقد سميت عند الفراعنة بربات الفنون وكانت جميعها آلهة إناث , وعند اليونان كذلك وغيرها من الحضارات , وقد اعتقد قدماء العرب ذلك أيضاً . فلكل شاعر من شعراء الجاهلية شيطان وله اسم بل إن هناك وادي اسمه ( وادي عبقر) وله تنسب صفة عبقري ,,, وقد اختلف على مكانه الحقيقي , ولكن هناك غالبية مؤرخين تؤكد أن موقعه شرقي اليمن على الحدود الشرقية مع عمان , حيث اعتقد العرب الأوائل أن طائفة من الجن كانت تسكن المكان وهم من يوحي بالشعر والقصائد الشعرية الرائعة للشعراء وهم معروفين بالاسم ,
فشيطان إمرؤ ألقيس مثلاً اسمه ( لافظ بن لاحظ) و (مسهل ابن أثاثة) هو شيطان الأعشى . و ( شنقناك) لبشار ابن برد . و(هاذر بن ماهر) يتبع للنابغة الذبياني ,,, إلى آخر قائمة شعراء الجاهلية و لكل شاعر شيطانه بالاسم .
ونلفت النظر في هذا السياق لكي لا يرى البعض أننا غير واقعين في رؤيتنا لما تطرحه الفلسفة القديمة والمعاصرة , والحق يقال أن جميع الفلاسفة قد أقروا بوجود الجمال في الطبيعة وأنه من مظاهرها الشمولية , ولكنهم في النهاية وخاصة المثالين الذاتيين منهم قد أرجعوا الجماليات الإنسانية إلى ما هو خارج الطبيعة وليس جزء منها وبذلك فصلوا الفن والجمال الإنساني بكامله عن الطبيعة , بل إن مصطلح فن لا يطلق إلا على المنتوج الجمالي الإنساني دون سواه, وهذا واضحاً في جميع الاتجاهات الفلسفية والفكرية عبر التاريخ بغض النظر عن تصنيفها واتجاهها , وحين ننظر إلى الفلسفة فلا نجد أي تلميح أو تصريح عن المنتوج الجمالي الطبيعي , فقط يقال جمال ولكنه ليس فني أو ما شابه ذلك .
إنها مادة مهملة قبل أن تصل إلى السياق الإنساني , إن هذا ليس عجز في المادة نفسها أي الجمال بل عجز في رؤيتنا للواقع , حيث نرى الواقع بعين واحدة ولا نرى سوى طرفنا ولا علاقة لنا بالطرف الآخر الذي يشكل المادة الجمالية الكونية بكاملها, إننا مع الأسف نعيش حالة مجنونة من العمى الذهني حيث نترك عقولنا مغفلة عن حقيقة أولية يجب أن نصوبها في نظرتنا لذاتنا وتفهم أننا جزء من الطبيعة, وليس كل ولا سلطان , ولم يصنع الكون و العالم من أجلنا بل نحن جزء ضئيل لا يذكر من ظواهر الكون .
لقد تركت مصادر الجمال الأصلية جميعها خارج البحث واقتصر البحث خلال التاريخ وحتى يومنا هذا على بحث المنتج الإنساني وتسميته فن وحسب وهذا ليس مزاحاً بل كارثة معرفية يجب التوقف عندها طويلاً وطرق بابها والترحال في دروبها البكر وفتحها أمام العقل البشري المعرفي , فجميع الكائنات الحية جميلة وتنتج جمال والفن وتتذوقه وتستمتع به , وسنرى ذلك معاً على دروب الجمال حيث يغازل الطير عشيقته , يناديها ضميراً غائباً , ويشدو ألحاناً تبهرها فتقع في غرامه , وتصبح واقعاً حاضراً بعد أن كانت مجرد ضمير غائب وحلم , ماذا يختلف الطير في عشقه عن الإنسان ؟ ربما الفارق الوحيد أن الطير مخلصاً لحبه أكثر من الإنسان ,,,, وسنرى الكثير عبر هذه المسيرة الفلسفية الممتعة والمعقدة في طريق الجمال وتفاعلنا معه.
إن فهمنا للجمال والفن والحب في موطنها الأصلي (الطبيعة) سيفتح بصيرتنا على حقائق كانت مغيبة عن عقولنا ومعيقة لفهم ذاتنا أكثر, وفهم العالم من حولنا, مما سيمكننا من إيجاد الحلول لإشكاليات مستعصية عجز الإنسان عن حلها عبر التاريخ .
إن مفهوم الجماليات عبر التاريخ سار برفقة الحضارات في سياق تطورها الفكري والثقافي والديني والفلسفي والمثلوجي, ولا يمكن في الحالة الاجتماعية فصل المفاهيم الجمالية عن مسار وعي المجتمع وثقافته ومعتقداته , وبذلك حصلنا اجتماعيا على مفاهيم متعددة للجمال والفن أيضاً, كلاً منها ينطلق من معتقداته لتفسير الظواهر الجمالية والفنية , وسنحاول في السياق الإجابة على الكثير من التساؤلات الجمالية الحديثة والمعاصرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق