تحية عطرة مفعمة بالأمل والتقدم نحو الأهداف السامية
(التنمية المستدامة , جذور إشكاليات وحلول)
رماز الأعرج ,, (*سديم*) المركز الدولي للدراسات الفلسفية والإنسانية
المحاضرة 17 ) )
2 : التوازن الطبيعي بين الإنسان والطبيعة
يشكل تفاعل الإنسان مع الطبيعة الأساس في وجوده و التناقض والتوازن بين الإنسان والطبيعة تشكلان احد مظاهر هذا الوجود الإنساني المعروف لنا , وجميع الأشياء الموجودة في الكون و الكائنات في الطبيعة لها تفاعلها المستدام مع وسطها المحيط وبأشكال متعددة وأبعاد مختلفة بين الظاهر والباطن , ويختلف هذا التفاعل وأثره بين ظاهرة وأخرى , وفي المجتمع البشري يصل هذا التأثير إلى ذروته ويصبح ذات فعل وتفاعل متبادل غير متوازن , بحيث تجاوز الإنسان قوانين الطبيعة , وسخر جزء منها لصالحه مما جعله خطر على الطبيعة ذاتها .
والمجتمع البشري بالذات بحاجة إلى مقومات خاصة و كثر ليتمكن من البقاء والتواصل في الحياة بشكل مستدام , والمجتمع ليس كبقية الأنواع الحية , المجتمع لا يستهلك المواد الطبيعة كما هي , بل بالضرورة أن تصنع وتعد للاستهلاك البشري الاجتماعي , وجميع المنتجات والسلع الضرورية للبشرية المعاصرة أصبحت مركبة من عدة مواد , ومنها ما هو معقد جدا مثل الأجهزة الكهربائية والآلات المنزلية الكثيرة , و أصبح المنزل بحاجة إلى العديد من الآلات والأجهزة الكهربائية وغيرها ليكون مناسب لمستوى العيش الحديث , بغض النظر عن شكل المنزل , أو نوعيته , وطبيعة المواد المستخدمة , أو ثقافة الشعب المرصود للدراسة , أو غيرها.
وكل هذا التطور والمواد لا تصنع من الفراغ أو الهواء , بل هي جميعها في الأصل مواد طبيعية ومن موجودات الطبيعة على كوكب الأرض , ولا يوجد لدى البشرية أي مصدر آخر للمواد المستخدمة من اجل الحياة واستدامتها , سواء للغذاء أو للتصنيع وإنتاج السلع والحاجات الاستهلاكية أو مواد البنية التحتية وغيرها , وهناك الكثير من المواد تركيبها وصناعتها أسهل كثيرا من التخلص منها فيما بعد .
أن هذا المذكور أعلاه والكثير غيره , بل مجمل المواد المستخدمة في النشاط البشري هي من الطبيعة , والإنسان يعيش في الطبيعة في النهاية , وأن كان حاليا يعيش في حاضنات معينة ولكنها في النهاية أي هذه الحاضنات موجودة في الطبيعة ومتفاعلة معها , ونحن جزء من تفاعل الطبيعة و الكون وغير قادرين على تجاوز ذلك في جميع الأحوال حتى الآن .
والدليل على ذلك رواد الفضاء الذين يقضون أشهر في المحطات الفضائية الموجودة في مكان خاص بمناطق توازن معين للجاذبية مما يحافظ على وجودها في مكانها , فهم لا يستطيعون الخروج عن نظام الحياة البشرية , من طعام وشراب وخدمات معينة ضرورية , وهي متوفرة لهم في داخل تلك المحطات وإلا لما تمكنوا من البقاء لفترات طويلة هناك تزيد أحيانا عن الشهرين .
نرى بوضوح أن المجتمع أصبح ذات أثر كبير وتفاعل البشر ونشاطهم في سبيل حياتهم ومتطلباتها أصبح مختلف نوعيا عن الماضي , بحيث تراكم الخبرات والمعلومات والتقنيات غير حياة الإنسان نوعيا وقلبها من جميع النواحي , وأكمل هذا المسار الثورة الرقمية , ودخول الحاسوب على كل شيء في حياة البشر , وأصبح الإنسان المعاصر إنسان تكنولوجي ورقمي بامتياز , بل هناك الكثيرين لولا التقنيات الحديثة لكانوا قد فارقوا الحياة منذ زمن بعيد .
أن طبيعة هذا التفاعل هو نوع من العلاقة العضوية المتبادلة المستدامة , والكائن الحي لا يستطيع الحياء خارج هذا النظام الطبيعي مهما كانت قدراته الذاتية , من التنفس المستمر و الاستهلاك للأكسجين كمادة غازية أولية طبيعية ومواد أخرى كثيرة من ضمنها الأولي ومن ضمنها الكيميائي مثل المياه وبعدها الأكثر تعقيد مثل الطعام والمواد الحية الغذائية , وبعدها تأتي الحاجات والمنتجات الاستهلاكية الأخرى من المواد المركبة والمعقدة جدا , مثل الأجهزة الكهربائية والذكية أيضا , (الذكاء الصناعي)
أن طبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة هي علاقة تفاعل مستدام , وكلا له أثيره على الآخر , وفي الماضي كان النظام الطبيعي هو الحاكم لكل شيء , وكان المجتمع يسير في المسار الذي تحدده قوانين الطبيعة , ولم تكن للبشرية من قدرات كبيرة وكافية للتغلب أو تجير قوانين الطبيعة لصالح الإنسان , بحكم محدودية التطور البشري والمعرفة بشكل عام .
يشكل التناقض الطبيعي بين الإنسان والطبيعة جزء من الوجود ما دام في مساره الطبيعي والمنتظم والمتناغم مع نظام الطبيعة والنواميس الكونية الشمولية جميعها وليس مجزئه , رغم اضطرارنا في سياق هذه المادة إلى عدم سياقها جميعها بحكم طبيعة المادة ومسارها .
والتناقض في الطبيعة ليس مجرد تناقض عابر بل هو مستدام وفعل أيضا متنوع الأبعاد والتأثير , وهناك الكثير من التناقضات قد تكون تناحريه وقد تتصاعد إلى حالة وجودية خطرة قد تؤدي إلى زوال الظواهر أحيانا .
ولكن وجود التوازن كقانون ونظام طبيعي يحكم هذه التناقضات , وهذا التوازن يشكل الناظم والضابط لوجود الظواهر بكافة أحوالها , سواء جوهريا من داخلها أو علاقتها مع المحيط الخارجي بها القريب والبعيد , وهذا التوازن هو ما يحافظ على الاستمرارية في وجود الأشياء والظواهر وتفاعلها مع بعضها في سياق وجودها الطبيعي المشترك في الحيز الكوني .
ولكن في الوقت ذاته يشكل ترابط هذين الناموسين مخاطر كبيرة على الوسط المحيط والحيز بكامله أحيانا وعلى كل محتوياته , وهناك قانون (الكتلة والطاقة والحيز) الذي يحكم وجود الزحكان الكوني في جميع أحواله و مظاهره , فحين يحدث انفجار كوني في منطقة ما من الزحكان تحصل تفاعلات وتغيرات جوهرية نوعية على المنطقة التي تعرضت للحث ووقعت تحت ما يسمى بأفق الحدث , و أحيانا تتلاشى كتل وتنتشر في الفضاء الكوني ويتشكل منها كتل جديدة مختلفة نوعيا عنها , رغم أنها من بقايا مكوناتها في شكل وجودها وتكتلها السابق هذا على الصعيد الكوني الفلكي .
وهذا الناموس الكوني في حال سحبه على المجتمع وتفاعله مع الطبيعة لتحقيق أوده وبقائه يوضح لنا حجم المخاطر الممكنة ونوعيتها , والطبيعة في النهاية لها حد معين من الاحتمال , والموارد محدودة جدا أمام مستوى النمو السكاني البشري وحاجاته الاستهلاكية الضرورية للبقاء , وحين أطلق مصطلح الانفجار السكاني على ارتفاع عدد السكان كان المقصود منه ليس فعله الحالي بل فعله المتصاعد مع الزمن بما يعني التضاعف الطردي المتصاعد .
في النهاية نرى بكل وضوح أن الإنسان في صراعه مع الطبيعة ليس هو الطرف الأقوى مهما بلغ من قدرات ذهنية وذكية تسخر قوانين الطبيعة لصالحه , ولكنه ليس قوانين الطبيعة ذاتها , أي الإنسان , بل هو خاضع لهذه القوانين والسنن شاء ذلك أم أبا , وما الإنسان وكل ما أنتجه سوى شي لا يذكر أمام حركة الطبيعة وفعلها , وابسط مثال الإعصار من الظواهر التي ما زال الإنسان عاجز عن مواجهتها , رغم انه يستغل قو الرياح للإبحار والتوليد الطاقة الكهربائية وغيرها الكثير من الاستخدام للهواء وطاقة الرياح , ولكنه ما زال عاجز عن مواجهة حركة الإعصار العنيفة , فيستلم لها ولا حول له سوى الابتعاد والاختفاء من وجه الريح العاتية .
إن ما يدور من تفاعل بين الإنسان والطبيعة هو ليس صراع بل تفاعل حيوي طبيعي لكل الكائنات وللإنسان أيضا , وبذلك على الإنسان السير وفق هذه السنن ومراعاتها والتناغم معها في النهاية , بشكل عام , والحصول على الأود مثلا ليس سهلا لجميع الكائنات بل بالضرورة السعي وراء الغذاء والشرب , والإنسان هذه ليس سوى أولية بالنسبة له وهو بحاجة إلى الكثير ليصبح إنسان مكتمل اجتماعي وذكي أيضا وهذا هو الأساس , نمط حياة الكائنات الذكية المعاصرة .
لذلك حين نستغل قوانين الفيزياء الحديثة مثلا لصالحنا علينا دوما مراعاة أن تكون طرقتنا لا تتعارض مع نظام الطبيعة الأساسي ولا تترك به آثار سلبية تحدث خلل في التوازن الطبيعي وهذا هو الأهم .
يشكل تصاعد عدد السكان خطر حقيقي على الطبيعة والحياة , وسنرى بالأرقام مدى جدية هذه القضية وخطورتها , بل قد تسبب انقراض الإنسان ذاته دون أن يعلم , وذلك لعدت أسباب من أبرزها أن الإنسان المعاصر لم يعد كما كان في القديم , والإنسان المعاصر وحياته بكل حاجاتها بداية من السكن والطرقات البنية التحتية والمواد الأساسية المستخدمة , وكل المنتجات المستخدمة بداية من التعدين إلى المواد النفطية والبلاستيك وغيره , ثم المواد الغذائية وتوابعها وطرق تصنيعها والمواد الضرورية لهذا التصنيع .
إن كل ما يتعلق بحياة الإنسان بحاجة إلى مراجعة من أبسطها إلى اعقدها , والنظام الغذائي كذلك , والسلوك والثقافة الإنسانية بشكل عام , وخاصة بما يتعلق بقضايا الطبيعة و البيئة والمناخ , أي بحاجة إلى جهد متكامل ومتوازن معتمد على خطط علمية مدروسة مستندة على قوانين الكون الشمولية ونظام الطبيعة والوجد قبل أي شيء آخر .
لقد شاهدنا في النقاط السابقة موضوع التصحر والمناخ والاحتباس الحراري بسبب الغازات الدفيئة والحروب وغيرها , وطبيعة المواد التي يسببها الاستخدام البشري والسلوك تحديدا, ناهيك عن الكثير من القضايا الأخرى , وحين نضيفها إلى التضخم السكاني تتجلى لدينا حجم الكارثة المقبلة على البشرية في المستقبل المنظور والبعيد المدى , والكرة الأرضية تعاني منذ أكثر من 200 عام من سلوك الإنسان المعادي للطبيعة والنظام الكوني بشكل عام , وتداخل ذلك مع ظروف جديدة وتقدم في العلوم الوبائية والعلاج البشري مما ساهم في ازدياد عدد السكان إلى حد ما , وهناك أسباب كثيرة لهذه الظاهرة سنأتي عليها في عنوان خاص بها في سياق المادة قريبا .
شكل التضخم السكاني نقلة نوعية جدية لم تكون في الحسبان لا اقتصاديا ولا سياسيا واجتماعيا , وبما أن المواد الحديثة ونظام الحياة بشكله العام مضر ومعادي للنظام الطبيعي رفع ذلك منسوب الضرر في الطبيعة , وترافق مع تصعيد مضطرد في الحاجات بسبب ارتفاع عدد السكان , ساهم ذلك خلال القرن الماضي في تضاعف الأزمات المتعددة الأبعاد و فاقمها أكثر وتداخل مع الظروف المحيطة وترك أثره على الأزمة مباشرة , وانشغلنا عنه بقضايا أخرى نراها أكثر أولوية وضرورة لا يلغي فعل هذا العامل الهام والذي يساهم في تفاقم الأزمة بشكل متصاعد , ولا يوجد له أي حلول جدية حتى الآن .
نحن ما زلنا الآن في النقطة الخامسة وسوف نرى مدى هذه الأزمة التي سببتها البشرية لذاتها وللحياة على كوكب الأرض , لا نريد أن نستبق سياق البحث ولكنا نحاول ربط المسار والنقاط بعضها ببعض كونها متداخلة أصلا ومتشابكة عنقوديا , وأثرها أيضا عضوي وعنقودي وعلاجها كذلك , والكثير من العلاجات حتما ستتقاطع وتتداخل كما هي الأزمة متداخلة ومعقدة .
نكتفي بهذا القدر من موضوع (التوازن الطبيعي بين الإنسان والطبيعة) وفي النقطة القادمة سنتطرق لأسباب التضخم السكاني وجذوره وتطوره عبر العصور , وذلك للكشف عن جذور هذه الظاهرة وفهم فعل الإنسان والمجتمع عبر مساره التاريخي وعلاقته بالطبيعة ومسار تطور هذه العلاقة , ولا يمكن فهم الظاهرة بعمق فعلي بدون تتبع جذورها في موطنها الأصلي من الواقع مباشرة ما دام متاح ويمكن رصده ومتابعته من قبلنا , لفهم الحقائق كما هي في الواقع ذلك أجدى وأدق للكشف عن جوهر الأشياء في وجودها .
سديم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق