قراءةٌ متواضعةٌ
لنَصٍّ أدبيٍّ...
" هاجِسُ الشَّاعِرِ.. وَ إِرْهَاصَاتُهُ! "
اِنفعالاتُنا محكومةٌ بالوعي وَ بما
يُحيطُ بنا، وَ بمصلحةٍ تَدعونا لها في معتركِ الحياةِ، وَ تظهرُ في أغلبِ الأحيانِ علىٰ شكلِ:-
* أفعالٍ ميكانيكيةٍ تَنقلنا منْ حالٍ إلىٰ حالٍ، نَجني مِنها جَزاءً مَوفُورًا، سِلبًا أم إيجابًا.
* أو ردودِ أفعالٍ مِمَّنْ وَقعَ عليه فعلُنا
وَ أصابَهُ بشيءٍ منَ الحَيفِ وَ أثَّرَ في
مجرىٰ حياتِهِ.
وَ سواءٌ منْ هٰذا أو ذاكَ.. يَبقىٰ الشّاعرُ
أبنَ بيئَتهِ البّارَّ، وَ رايتَها التي تُرفرفُ
عاليًا رُغمَ عَواتي الزّمنِ وَ الأقدار...
يَستنشقُ الأهواءَ وَ يمتصُّ الأفكارَ،
وَ يقرضُ الشّعرَ كمتنفسٍ طبيعي منْ
رِئةٍ ثالثةٍ.
بينَ يَدي النَّصِّ:-
مقدمةٌ...
النصُّ هو قصيدةُ نثرٍ غيرِ موزونةٍ، تحملُ صورًا وَ معانٍ شاعريةً ذاتَ موضوعٍ واحدٍ، لها إيقاعٌ وَ موسيقىٰ داخليَّةٌ، تَتصفُ بالإيجازِ وَ التَّوهُجِ.
تمتازُ لُغتهُ بالبساطةِ في الألفاظ وَ التراكيب، مبتعدةً عنِ المحسناتِ البديعيةِ إلىٰ حدٍّ ما. تحملُ هاجسَ التجديدِ نتيجةَ تَأثُّرِ الشاعرِ أو اِنبهارِهِ - إن صحَّ التعبيرُ - بالمُنجزِ الأوربي، وَ الإحتكاكِ بإنجازاتِ قصيدةِ النثرِ، وَ النصوصِ المُترجمةِ لَعِبَتْ دورًا مهمًّا وَ تُعَدُّ لدىٰ بعضِ النّقادِ وَ الباحثينَ.. المُحرُكُ الفّعالُ لكتابةِ قصيدةَ النثر في الوطنِ العربي قاطبةً.
فَضلًا عنْ أنَّ شاعرَنا (و هو من المملكة المغربية) علىٰ تماسٍّ جغرافي وَ وجداني بالشعرِ الأوربي الزاخر بما يُلفتُ الإنتباهَ، وَ لديه قريحةٌ خَصبةٌ و قدرةٌ علىٰ تَطويعِ الكلمةِ ليَرسُمَ منها صورةَ معاناةٍ يَعيشُها بعيدًا عنِ (الحبيبةِ)!
فَقطعًا إنَّهُ قرأَ وَ اطَّلعَ علىٰ نتاجاتٍ نثريةٍ كتبَها "بودلير، و رامبو، و ملارميه" في فرنسا وَ باللُّغة الفرنسية.
شَكلُ النَّصِّ:-
النَّصُّ يتكونُ من أكثر منْ سِتينَ سطرٍ، أغلبُها بكلمةٍ أو بكلمتينِ!
وَ هٰذه الطريقةُ أراها تُتعِبُ المُتلقّي وهو يتابعُ المفرداتِ ليستجمِعَ صورةً أو فكرةً منها، كي يحصلَ علىٰ ثِيمَةِ قصيدةٍ، تنضحُ باللواعجِ و المشاعرِ المنطلقةِ من وجدانِ الشاعرِ.
معَ ذٰلكَ.. ثَمَّ خيطٌ يربطُ الأسطرَ
وَ يجعلُها وحدةً واحدة، تمنحُ المتلقي متعةَ كَمٍّ منَ الصورِ الجميلة، وَ هي تمرُّ علىٰ شكلِ أفعالٍ لشخصيات تتحركُ علىٰ مسرح الحياة، وَ تصوِّرُ أحداثًا خياليةً، أبدعَ الشاعرُ فيها بإيصالِ حقائقَ يعيشُها وَ وقائعَ تَحدِثُ لهُ، وَ عرضَها بشكلٍ جَليٍّ
وَ سلسٍ، بَلْ مُثيرٍ للإعجابِ!
أصلُ المَوضُوعِ:-
النصُّ:- " أنشودةُ المِهجاءِ "
نوعُ النصِّ:- قصيدةٌ نثريةٌ
الكاتبُ:- سعيد هجري موسى/المغرب
القراءةُ:- صاحب ساجت/العراق
المصدرُ:- جامعةُ زهرة المغرب العربي
الدولية للادب
أوَّلًا:- العنوانُ...
(أُنشودَةُ المِهجاءِ) منْ كلمتينِ:-
* أنشودةُ.. الأسمُ من الفعلِ ' أنشدَ ' جمعُها أناشيدٌ بمعنىٰ:-
رَفْعُ الصّوتِ مع تحسينهِ وَ ترقيقهِ، بدون موسيقىٰ، و هو فَنٌّ دينيٌّ مرتبطٌ بالأدعية وَ الإبتهالات، تُصاحبهُ مؤثراتٌ منها الدفوفُ، أو بدونها كالحَدَاءِ الجماعي لسَوقِ الإبلِ، أو حينَ قطفِ السَّنابلِ في موسمِ الحصادِ.
وَ أنشدَ الشعرَ.. قرأهُ رافعًا به صوتَه ،
وَ شِعْرٌ مُتناشدٌ بين القومِ.. ينشدهُ بعضُهم لبعضٍ، و بما يُغنَّىٰ من الشعر أو النثر.
* المِهْجاءُ.. من أوزانِ صيغةِ المبالغة القياسية من الفعل الثلاثي(مَهَجَ) علىٰ وزن (مِفْعَال) مثلُ: مِعطاء، مِهذار، مِدرار.. { وأرسلنا السَّماءَ عَليهِم مِّدرَارًا} الأنعام-٦.
مَهَجَ.. نَضِرَ، يَمهجُ، مهجًا، حَسُنَ وجههُ بعد اِعتلالهِ.
مُهْجَةٌ.. الأسمُ و جمعها مُهَجٌ و مُهجاتٌ
بمعنىٰ:- دَمُ القلبِ أو خالص النَّفسِ، بحيث لا بقاءَ لها بعد أن يُراقَ دمُ القلبِ - المهجةِ. (المعجم الوسيط)
(إني أحبكِ حباً لا نفادَ له ما دام
في مهجتي شيءٌ من الرَّمقِ)
(لسان الدين ابن الخطيب)
هنا الأنشودةُ تلهجُ باسم المهجةِ، يعتقدَ الشاعرُ بدونها اِنعدامُ حياتِهِ، كَمَنٍ يُراقُ دَمُ قلبِهِ، رُغمَ إنَّها في مكانٍ آخرَ، لكنهُ يُخاطبُها وَ كأنَّهما توأمٌ سِياميٌّ!
(نحنُ كُنا مهجة ً في بدنٍ
ثمَّ صِرْنا مُهجة ً في بَدَنَيْن )
( أحمد شوقي )
ثانيًا:- ساحةُ الأحلامِ...
الأحلامُ مثيراتٌ ذهنية واسعة المَدىٰ، يمكنُ من خلالها رسمُ بعضَ الأهدافِ
وَ تنزيلها من بُرجِ الخيالِ إلىٰ ميدان الواقع لتوافقها مع القدرة المعروفة.
و الأشخاصُ الأكثر إدراكًا و معرفةً.. هُمُ الأقدر علىٰ التخلّص من قيود زائفةٍ، سواءٌ نفسية أو دينية.
و هي- أيُّ الأحلام:- تحملُ صاحبها علىٰ بساطِ الرّيح، و ذٰلك من ضَربِ الخيال، فتنقلهُ إلىٰ أرضٍ يَرُومُ الوصول إليها بأيِّ ثمنٍ. و قَلَّما نسمعُ أن البحرَ يحملُ علىٰ ظهره - و هو الأقرب للواقع- بوسائلِ نقلٍ تتحركُ بنظام الدَّفع البشري، او بالأشرعة، أو بالدفع الميكانيكي. زِدْ علىٰ ذٰلك.. أنَّ المسافرَ في النصِّ، استسلمَ للظَّمأ، و تركَ للحنين فرصةَ أنْ يَقِلَّهُ إلىٰ مُنْيَتِهِ
و هواه.
هٰذا الاصرارُ علىٰ قطع المسافات، باتَ الهَمَّ الأصعبَ في الحياة! اِتضحَ ذٰلك..
في نَسْجِ خيوط العنكبوت (بقايا ثوب منديل) لبلوغِ منزلةٍ عالية، مصدرُ النَّبع العذب، دون أن يقفَ مكتوفَ الأيدي.
ثالثًا:- الأملُ هو المُحرِّكُ وَ المُحرِّضُ...
الأملُ، الرجاء، الترقّبُ.. كلماتٌ تَحملُ مدلولًا واحدًا، بحصولِ ما يُستبعَدُ حصولهُ، و ليسَ بمعنىٰ الأمنيةَ التي لا رصيدَ لها.. رأسُ مالِ المفلس! بل الاستعدادُ لبذل جهدٍ، مع شعورٍ يُلازمُ ذٰلك الجهد.
(مَنْ رامَ وصلَ الشّمس حاكَ
خيوطها سَبباً إلىٰ آماله وتعلّقا)
"حافظ ابراهيم"
فبلوغ الشمس هنا.. كنايةٌ عن الآمال العريضة، و مستوحاةٌ من الحديث الشريف "لو تعلّقت همّةُ أحدكُم بالثّريّا لنالها" و الثريا نجمٌ في أعالي السماء.
و الأملُ عملٌ، و ليس كسلًا أو أماني مجنحةً، و خبزُ البؤساء - كما يقال - التَمنّي، و ليس الأملَ، لأنهُ متاعُ الأقوياءِ!
الإنسانُ الآمِلُ يتحرك اتجاه مبتغاه و هو متفائِلٌ بقولٍ أو فعلٍ وثيق الصلة بالأمل.
هٰكذا يَتَراءَىٰ لي وَ أنَا اتتبعُ مفردات النصِّ إبتداءً..
فالناصُّ قد تناصَّ معَ 'حافظ ابراهيم'
بِــ (مَنْ رامَ وصلَ الشّمس حاكَ
خيوطها سبباً إلى آماله وتعلّقا)
في جزئيةٍ منْ نصِّهِ هي:-
(خُطتُ/شراعا من بقايا ثوب/ منديلك/يستدرجني إلى نبع عذب)
و لنقرأَ النَّصَّينِ تَفْصيلًا:-
الأولُ:-
الفعلُ.. حاكَ ؛ الهدفُ.. الشمسُ ؛
الوسيلةُ.. السببُ /الكهف- ٨٤
{وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾
بمعنىٰ:- كلُّ شيء يتوصلُ به إلىٰ غيرهِ.
الثاني:-
الفعلُ.. خاطَ؛ الهدفُ.. النبعُ العذب؛
الوسيلةُ.. الشراعُ
و في كِلا الحالين يأملان الإرتقاء إلىٰ هدفٍ، مهما كلَّف ذلك من مشقةٍ و عناء في السعي و تهيأة مستلزماتِ الفَلَاحِ
في المسعىٰ، فضلًا عن هَمِّ الكاتب
- في نصنا- للوصولِ إلىٰ بُحْبُوحَةِ الهناءِ وَ الرَّخاء ليغسلَ أحزانَهُ ببَسمَةٍ بِكْرٍ، تَسْطَعُ في العيونِ كغيمةٍ تسبحُ في الفضاء، قَطْرُهَا الوُدُّ وَ الوَردُ، بَينما يُعَبِّرُ عَنِ الهُيامِ وَ التَّوهانِ:-
بِــ (مغمض العينين/اتحاشى الشرود/
سابح في تضاريسك/كالأعمى)
رابعًا:- هاجسُ الشاعرِ وَ حَيرتُهُ...
تَشَكَّلَ لدىٰ الشاعرِ هاجسٌ لِما يتصورُهُ فِكرُهُ نتيجةَ قلقٍ و حَيرةٍ، أو همٍّ وَ تخوِّفٍ من شيءٍ ما، يَستبدُّ بهِ و هو بعيدٌ عنَ (الحبيبةِ) في الغُربة التي اِختارَها أو أُجبرَ عليها لظرفٍ معاشي أو قهرٍ إجتماعي أو سياسي، ينشدُها في تضاريسِ الجسدِ وَ عرصاتِهِ، يَتلمَّسُها بِجملَةِ حَوَاسِّهِ وَ انفعالاتهِ التي تَتبعُها كما نراه في:-
(اقرأ/للتعبيرِ عن البصر؛ رعشة/المصاحِبةُ لِلَمْسٍ؛ اللّون/أحمرُ الشفاه؛
الأنفاسُ/الشمُّ؛ يُطربُ/السمعَ؛ تكفكفُ/المواساةُ؛ أرقصُ/البهجةُ.. إلخ)
بعدَ ذٰلك...
تَنطلقُ في فضاءات أرحب وَ أوسع من خياله، يتأملُ حالهُ في غربتهِ/الشرنقة،
فيتخلصُ منها بعد تمزيقِ النَسْجِ/الخيال، ليرقصَ تحت المطرِ، عازفًا للقمر..
(كصبي/يعانق ظلالا/عبر المدى/كفراشة تنمو فوق الندى/تعبر تلالا )
(وَ لا ادري كيفَ مَرَّ بخاطري 'ابراهيم ناجي' في:-
(و ضحكنا ضحك طفلين معا
وعدونا فسبقنا ظلنا)!
بَيْدَ أنَّهُ... علىٰ حينِ غِرَّةٍ يَمَّمَ وجهَهُ شطرَ الحبيبة، طامعًا بترتيل نثرها و شعرها و طالبًا أناملَها ليعيدَ تيارَ الحُلْمِ إلىٰ جَريانهِ، و يكتبُ قصائدَ عشقٍ مجنونٍ، مع انه نَسِيَ طقوسَ صَلاتِهِ..
مَتىٰ؟ وَ كيفَ؟ وَ مَنْ يُؤمُّهُ ليُريحَ بالَهُ وَ هو في غُربتِهِ وَ مَنفاهُ!
أخـــــيرًا...
هكذا وَجدتُ النّصَّ، و قرأتهُ بهذا الشكلِ و المضمونِ، أرجو مَنْ يَجدُ ثَمَّةَ فائدةً أو معلومةً لَديهِ، يطوُّرُ بها هذه القراءة المتواضعة، بشكلٍ خاص، و يُقَوُّمُ الٕابداع في المجال الأدبي.. بشكل عام، كي تزدادَ الفائدةُ و نُنمِّي ذوقَ المتلقي و نحفِّزهُ، لان يتابع بشغفٍ و درايةٍ ما ينتجهُ الأدباءُ
و ينشروه..
كُلُّ التّقديرِ للإستاذ( سعيد هجري موسىٰ)، و نغبطُه علىٰ إبداعِهِ وحرصهِ علىٰ تقديمِ أفكاره بإطارٍ و إسلوبٍ بديعٍ حَقًّا، مِمّا يدعونا أن نَثني عليه جَزيلَ الثَّناء..
معَ أطيبِ التحياتِ.
(صاحب ساجت/العراق)
النص موضوع القراءة...
**** انشودة المهجاء****
كم حلما
حملني بين الماء
و بينك
فما استسلمت لظمئي
و بايعت حنينا
يُقِلّني إليك
إلى وجنتيك....
خُطتُ
شراعا من بقايا ثوب
مناديلك
يستدرجني إلى نبع عذب
طفا على خديك
أغسل حزني و صدئي
ببسمتك
العذراء
حين تلوح في بؤبؤ عينيك
كغيمة تتسلق السماء
تتودد
دمعها الورود
مغمض العينين
اتحاشى الشرود
سابح في تضاريسك
كالأعمى
أقرأ
رعشة المسام
في ربى صدرك
ألونها بأحمر شفتيك ...
انفاسك
تطرب مسامعي
كفك
تكفكف مدامعي
ارتدي معطفك
الأزرق
و أرقص
تحت المطر
أعزف نايا بلا ريح
واغني للقمر
انت الريح
تمايلني بهدوء
كصبي
يعانق ظلالا
عبر المدى
كفراشة تنمو فوق الندى
تعبر تلالا
تقطع جبالا
و تنام على شط ثغرك
أتيمم خصلات شَعرك
كل نثرياتك
و كل شِعرك
أعيريني
حبيبتي اصابعك
كي أعد للحلم
قصائد العشق
المجنون
الأحمق
عزيزتي
قد نسيت صلواتي
متى اصلي
في محرابك
انت الإمام
و أنت
دفء المُقام .....
(سعيد هجري موسى/ الرباط)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق