ذهبت أنا وزوجتي حتى نسجل ابننا في روضة الأطفال.
سألني المدير عن اسم الطفل: قلنا جورج
اسم الأم: نتالي
أسم الأب: محمد
عرف المدير بأنني من سورية وأخذ يتكلم بالعربية وأصر أن يعرف قصة حضوري إلى هذه البلد البعيد عن العاصمة روما...
ابتسمت ونظرت إلى زوجتي، وبدأت أروي قصتي باللغة الإيطالية...
قلت: كنت مسافراً في القطار من روما إلى الشمال الإيطالي قاصدا العبور إلى النمسا. ثم إلى المانيا. تصادف وجود طلبة جامعيون معي في مقصورة القطار، وأيضاً كانت هناك مسافرة حسناء، تحمل كتاب روميو وجولييت للكاتب وليم شكسبير...
تحرك القطار، وأخذ يتسارع...كنت أمتع نفسي بمناظر الطبيعة عبر نافذة المقصورة وأحياناَ، كنت أختلس النظر إلى الفتاة الجميلة قبالتي المأخوذة بالكامل في كتابها...
بعد حين، توقف القطار في محطة، ونزل العديد من الركاب ومن جملتهم الطلبة الذين كانوا في المقصورة، ما عدا الحسناء الغارقة في كتابها...
خف الضجيج كثيرا في القطار، وشيئا فشيئا حلت الظلمة خارجاً، وشعرت بالملل، والطريق إلى مقصدي لا يزال بعيداً، يلزمه ساعات للوصول...
أخذت أتنقل في ممرات القطار، بعدها دخلت عربة المطعم، كان هناك العديد من المسافرين، ومكتبة فيها مجلات بكل اللغات عدا اللغة العربية، اشتريت مجلة في اللغة الإنكليزية، التي لا أجيدها كما يجب، لكنني اردت تسلية نفسي، دخلت الحسناء التي معي في المقصورة، إلى المطعم ولا تزال حاملة كتاب روميو وجولييت معها. وقصدت المشرب واحضرت فنجان قهوة، واخذت تبحث في نظرها عن مكان تجلس فيه...
كان يوجد كرسياً فارغاً بجانب طاولتي، أشرت لها بيدي إليه. ابتسمت وجاءت راضية وشكرتني بلغتها الايطالية
رددت بخجل بالإنكليزية، آسف جدا أنا لا اعرف لغتكم لكن أعرف الانكليزية كلغة ثانية. أراك تقرئين مسرحية شكسبير روميو وجولييت...
ضحكت وقالت أنا اعشق هذه المسرحية... لأنها تحكي قصة الحب الحقيقي
دار بيننا حديث طويل حول المسرحيات والأدب وخصوصا عن السينما والمسرح، وقلنا سينما المنتجين شوهوا الأعمال الأدبية الرفيعة، لأن همهم انحصر في شباك التذاكر وإرادات الفلم
وصلنا مدينة بولونيا، وكما تعرف استاذ: كان علينا التوقف فيها لمدة ثلاث ساعات، حتى يصل القطار المخصص لنقل المسافرين إلى الشمال الإيطالي...
دخلنا إلى مقهى قريب، تحادثنا في أمور كثيرة، اخبرتني، بأنها ذاهبة إلى بادوا حتى تطمئن على أهلها، وهي تزورهم كلما سنحت لها الفرصة لذلك...
أخبرتها عن سورية وشرحت لها عن الحرب الدائرة في بلادي غير العادلة، التي شردت ناسي، بأسلحة الموت التي أحضروها، وقلت لها أنا هارب من ميادين الموت هناك قاصدا المانيا، سافرت من سورية إلى ليبيا، ومنها إلى إيطاليا في قوارب الفاجعة والغرق، ومنها إلى النمسا وإلى المانيا، الألمان يستقبلون السوريين برحابة صدر بينما في بلادي يذبحون الناس كما تذبح. الخراف...
أحسست بألم نتالي، وشاهدت دموعها تسيل على وجنتيها، لكنها قطرات ندى روت قلبي العطش لكلمة حب، كلمة حنان تروي فؤادي اليابس من مرارة الوضع في بلادي
وصلنا بادوفا، تصافحنا مودعين بعضنا البعض، قلت لها كم أنا آسف بأن الرحلة انتهت، كانت من أحلى أيام عمري الذي جعلوه دراما مأساويا...
قالت: ما رأيك تأتي معي تزور أهلي ووالدي يوصلك إلى النمسا هو كثيرا ما يذهب إلى هناك وحيداً في سيارته... هو يحضر الحرير الطبيعي من النمسا، ويصنعه في إيطاليا.
استقبلني أهلها بحفاوة ظننا منهم بأنني صديق أو خطيب ابنتهم، لكن عندما أخبرتهم ابنتهم قصتي،
قال أبوها لكنهم قالوا عندنا عبر وسائل الإعلام: بأنهم دعاة سلام، يحملون أغصان الزيتون رمز المحبة، إلى بلاد الشام، حتى يقدمون لكم الربيع العربي ويعيدون الحضارة والمجد إلى بلادكم...
في اليوم التالي: قالت لي نتالي ربما تمضي عندنا بعض الوقت والدي سيذهب إلى النمسا في الأيام اللاحقة بعدما تنتهي اجازتي عندهم، لأنه مسرور بحضوري وهو مشتاق لي، وأهلي مصرين على بقائك عندنا ضيفا معززا مكرما.... دخلت مخدعي، وسجدت وصليت شاكرا الله على هذه المساعدة غير المنتظرة، والبقاء مع هذه الحسناء التي سكنت أوصالي...
في اليوم التالي خاطب الأب ابنته وقال لها: خذي سيارتي أذهبي أنت ومحمد وأريه المدينة...
من أهم الأماكن التاريخية المعروفة في بادوفا أو بادوا كما يلفظها الإيطاليون. كنيسة القديس انطونيو تلميذ القديس فرنسيس الأسيزي، وهذه كنيسة يزورها السائحون من جميع أنحاء العالم لأنها مركز يعيد قصة الماضي لتحيا في الحاضر...
رفض محمد الدخول إلى الكنيسة وقال: أنا مسلم لا يحق لي الدخول إلى مقدسات مسيحية...
قالت نتالي: من أين تأتي بمثل هذا التحريم، هذه دار الله، والجامع أيضا هو دار الله، أليس الله واحداً، أم الله عندكم مختلف عن الله عندنا...
نحن البشر، جعلنا الله الواحد ألف إله... قد نختلف في طرق العبادات والطقوس لكننا جميعا نصلي لذات القدرة الخالقة لهذا الكون الواسع الذي لا حدود له...
بعدما خرجنا من الكنيسة، قبلتني وقالت هذه قبلة النعمة المقدسة...
بالنسبة لي كانت تلك القبلة التي أشعلت كياني وأججت كل مشاعري...
صرنا كل صباح نزور بلدا أو مكانا سياحيا، وأنا في غاية الفرح بهذه الرفقة الرائعة التي كانت تتمركز في كياني وفكري. ناهيك عن تلك المناظر التي تسلب لب الإنسان...
في نهاية الأسبوع، اعتذرت نتالي بأنها ستعود إلى عملها في روما...
أوصلها أبوها إلى محطة القطارات وأنا كنت معهم.
قبل أن تصعد هي إلى القطار، غمرتني وقبلتني بحرارة وأجهشت بالبكاء وصعدت إلى القطار وعادت وقبلتني ثانية...
قال ابوها بما معناه: أخطب لابنتك ولا تخطب لابنك، وسألني:
يا محمد هل أنت تحب نتالي وتريدها زوجة لك؟
قلت هذا حلم لا أقدر أن أحلم به...
قال الأب بلهجة الأمر: نتالي أعيدي حقائبك للسيارة لن تذهبي بعد اليوم إلى أي مكان، ستكونين مع زوجك محمد وبيتك...
تزوجنا في كنيسة القديس أنطونيو، ورزقنا الله بابننا جورج، وولد آخر قادم على الطريق...
إلى اللقاء
الكاتب: عبده داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق