بقلم :ماهر اللطيف
عادني حفيدي عبد المجيد الذي اهيم بحبه وهو كبير أحفادي ذات نهاية أسبوع مصحوبا بأخته ووالديه للإطمئنان على صحتي وحالتي من جهة و لقضاء العطلة الأسبوعية بقربي وزوجتي من جهة أخرى.
فأحاطني بحبه وحنانه المعتادين وأشبعني تقبيلا وتغزلا وكلاما لم أقدر عليه ولا على وقعه وقيمته الى أن شعرت بنفسي طائرا في سماء السعادة والبهجة رغم جبال الآلام والأوجاع التي تحاصرني من كل جانب.
كما فعل الشيء نفسه مع جدته وعمه الذي قدم وعائلته كذلك لنفس الأسباب بما أني عوّدت أبنائي على التجمع والتوحد والإتحاد في كل مناسبة ونهاية كل أسبوع مادمت حيا عسى أن تصبح هذه العادة ثقافة عندهم ويحتفظون بها بعد توريتي التراب حين يحل موعدي.
وما إن أتممنا تناول وجبة الغذاء وجلسنا في باحة منزلي حيث الهواء النقي لشرب ما تيسر من الشاي والماء وأكل بعض الحلويات كالعادة حتى اقترب مني عبد المجيد وهمس في أذني وقد غطى فمه بكف يده اليسرى وهو يسترق النظر إلى والده عبد الباقي وكأنه لا يريده أن يستمع إلى قوله -وكان والده يراقب حركات ابنه ويبتسم مع تغير لون وجهه في كل مرة حياء وخجلا مني ومن غرابة تصرفات ابنه أحيانا كما يرى هو - :
- سوسو (تصغير لاسمي سالم كما يريد حفيدي مناداتي) ، هل لي أن أسألك سؤالا لم أحظ على جواب شاف له من طرف ابنك؟
- (مقهقها ولاعبا بشعره وهامسا في أذنه أيضا) بكل سرور حبي الغالي
- (ضاحكا) هل نفشي الموضوع أم نواصل الخوض فيه سريا بعيدا عن هذا الجمع؟
- -(مستغربا وضاحكا) كما تريد بني ، ولو أني لم أعلم بعد فحوى السؤال لأبدي رأيي فيه بصفة قطعية
- (هامسا) سؤال ديني يا سوسو
- (مربتا على كتفه) إذن لنجعل الحوار عاما ليتمتع الجميع بالفوائد التي قد نصل إليها ونذكرها إن وفقنا الله في ذلك بكل تأكيد
فتقهقرقليلا وجلس في مكانه والكل يراقب ما يدور بيني وبينه قبل أن يقول بصوت مرتفع سمعته جدته وأمه وزوجة عمه اللات كن في المطبخ داخل المنزل :
- ما الفرق جدي (لا يمكنه أن يناديني سوسو أمام العامة خشية رد فعل والده وعمه اللذان يرفضان مثل هذا السلوك) بين "القمار" والميسر"؟
- (عبد الباقي بكل ثقة في النفس بصوته الجهوري) سبق وأن فسّرت لك الموضوع بني ، ومع ذلك فسأعيد لك العرض. فقد اعتبر العلماء الميسر أعمّ من القمار بما أنه يشمل اللهو الذي يقصد منه الإستمتاع بلا مقابل مادي ، ويشمل أيضا ميسر القمار الذي يكون فيه رهان سواء أكان ماديا أم غير ذلك كما في رهان الجاهلية. وبالتالي فإنّ القمار هو جزء من الميسر وهو أي رهان مقابل مال والميسر لا يشترط فيه المال ، فقد يكون مقابل أشاء أخرى أو بلا مقابل كميسر اللهو.
- (أنا مقاطعا) رويدك بني ، حاول تبسيط المعنى فابنك لا يفهم ما عرضت بهذه الطريقة.
- (عبد الملك ابني الآخر وهو يضحك) الميسر بني (وهو يتجه بالحديث إلى حفيدي) لغة على وزن مفعل من فعل يسر ، فنقول مثلا يسّر لي كذا إذا وجب وهو مأخوذ من اليسر لأنه يأتي بسهولة دون جهد مبذول كالمسابقات التلفزية مثلا التي تضع على ذمة المتراهنين جوائز قيمة مقابل بعث ارساليات كالفوز بمنزل أو سيارة أو أثاث وغيرها من الجوائز.
- (عبد الباقي) فقد عرّف الميسر اصطلاحا عدد من العلماء على غرار الجرجاني الذي قال " كل لعب يشترط فيه الغالب من المتنافسين أخذ شيء من الملعوب معه" وقال الكفوي "هو كل شيء فيه خطر"، ومعنى ذلك أنه كل لعب يؤدي إلى مخاطرة اللاعب بفقد المال كنتيجة لذلك اللعب.
والميسر كما ذكر الإمام مالك نوعان : ميسر اللهو وهو ما كان الهدف منه اللعب والإستمتاع دون مقابل مادي أو محسوس كلعب الشطرنج أو اي لعبة يدخل فيها النرد ( هو شكل مكعب يستخدم في الألعاب عندما تكون النتائج المطلوبة عشوائية) ، وميسر القمار وهو ماكان لعبا بمقابل مادي وفيه مخاطرة فيشمل أي لعب ينطبق عليه شرط المقابل المادي والمخاطرة.
- ( عبد الملك) أما القمار بكسر القاف فهو لعبة المراهنة على المال بقصد الربح ، والقمار مصدر قامر.ويشترط فيه المراهنة على مال يربحه الفائز حسب شروط اللعبة كاليانصيب والبروموسبور وغيرهما
- (عبد الباقي متوجها بالسؤال إلى أخيه) وما حكم الميسر والقمار؟
- (عبد الملك بعد تفكير) لا بد هنا من التفريق بين حكم ميسر اللهو وبين حكم الميسر الذي من أنواعه القمار وهو الذي يكون مقابل رهان.
فحكم ميسر اللهو نوعان : ففيه من يحرمه كجمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة ، وفيه من يعتبره مكروها كالشافعية قياسا على لعبة الشطرنج
أما حكم ميسر القمار والقمار بشكل عام فقد اتفق الفقهاء على تحريمها وذكروا أنها كبيرة من الكبائر وأنّ المال الذي يكسب من خلالهما هو كسب حرام ، فينبغي رده إلى أصحابه لمن نوى التوبة أو إلى الفقراء إن لم يعرف أصحابه دون إعلامهمعن مصدر هذا المال ولا يعود إلى ذلك أبدا بعدها.
وتواصل الأخذ والرد بين الأخوين واستعراض المعلومات بينهما وانا وحفيدي نتابع باهتمام ونحاول فهم ما يمكن فهمه وفق قدراتنا وامكانياتنا (ناهيك وأني لم أتمم دراستي الثانوية وحفيدي لا يزال يدرس في المدارس الإعدادية بما أنه لم يتجاوز سن الرابعة عشرة سنة) إلى أن أفرغا جرابيهما وعم الصمت المكان قبل أن يلتفت عبد الملك ويسألني :
- لم نسمع رأيك شيخنا ، ألا تشاطرنا الرأي والتحليل؟
- (ضاحكا ومتظاهرا بفهم كل ما تناولاه) لم تتركا لي ما أضيف بني ، فقد شرحتما وأوفيتما...
- (عبد الباقي مقاطعا) العفو أبتاه ، فهذا قطرة من فيض نهر علمك المتسع ، بل إنه نتاج تربيتك وتكوينك لنا
- (مقهقها) أصمت أيها اللئيم ، (أفرك أصابع يدي وأشابكهما في بعض بعد أن صمتت لحظات زمنية) لكن عليّ أن أذكّركم هنا بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"(المائدة) ، فإذا نظرنا إلى القمار وجدناه يوقع العداوة والبغضاء بين الناس ويولد الحقد بينهم. فيخسر الخاسر ويخرج المال من يده من غير مقابل كما هو في البيع والشراء ، فيحقد الطرف الخاسر على الطرف الرابح.
- (عبد الملك) وقوله تعالى "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون "(البقرة). فالقمار له عواقب وخيمة تصل إلى الإنتحار والجريمة وتدمير الأسر وتحطيمها وطلاق الزوجين وتشرد الأطفال وغيرها
- (عبد الباقي) وقوله تعالى أيضا " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" (المائدة).فالقمار يأتي على الأخضر واليابس وينال من المتعامل معه آجلا أم عاجلا ويحرمه من السلم والسلام والطمأنينة والإستقرار والسعادة ، يقضي عليه ويبعده عن الله وعن الإسلام ويجعله عبدا للحرام وتابعا للشيطان فيخسر الدنيا والأخرة وهو يبحث عن الربح المزعوم ولا يناله وإن ربح مرة وأخرى وأخرى ، فالطمع لا حدود له لدى المقامر الذي يسعى إلى المزيد فيخسر الكل في لمح البصر بما أنه "ما بني على باطل فهو باطل"
وتابعنا الحديث وحفيدي يتلبعنا باهتمام شديد وهو يتفاعل معنا بحركاته وتقاسيم وجهه دون أن ينبس ببنت شفة مخافة النطق بما لا يعجب المتحاورين ، إلى أن قلت له :
- هل فهمت الفرق بينهما الآن؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق