ذاكرة عمري الصغير
(01)
(رسالة طويلة جدا ودموية جدا إلى صالح)
اليوم يا صالح وفي هذه الليلة الصيفية الساكنة، رغبت في البكاء.. ولم أستطع حتى تذكرت عمري الصغير.. مفتاح شلال الدموع..
هل تذكر؟ قبل سنوات في مثل هذا الصيف تقاطعنا في الطريق .. سألتني: هل زرت خالتك في المشفى؟ رددت عليك بسرعة: أنا؟ أنا ليست لي خالة مابك؟
قلت: خالتي وذكرت اسمها اسم فاكهة لم ترني في حياتك أحملها أو حتى أذكر اسمها؟
قلت لك؟ نعم خالتك أنت أما أنا فلا خالة لي.. قاطعتني: لقد أصيبت بجلطة ضغط وهي قابعة بالمشفى.. منذ فترة طويلة ألم تسمع؟.. قاطعتك: الحمد لله بإذن الله ستكون الجلطة قوية لتشلها تماما.. بإذن الله لن تستطيع حتى هز أصبع فيها ولن يبق منها إلا النظر.. بإذن الله لن تخرج إلا وهي مشلولة تماما تتبول وتتغوط تحتها..
جحظت عيناك كمن صادف في طريقه شيطانا رجيما جانبتني و تابعت طريقك.. و أكملتُ أنا طريقي إلى العمل أغني.. أغنية سعيدة.. وصلت ودخلت مكتبي و أغلقت الباب بالمفاح واختليت بشلال الدموع..
اليوم يا صالح رغبت في البكاء و لم أستطع، فلجأت كعادتي إلى عمري الصغير فانهمرت دموعي شلالا طافحا وتذكرتك وظهرت عيناك جاحظتين.. وعلامة استفهام إسمنتية كبيرة على رأسك فخشيتُ أن أموت ولا أكسرها عن رأسك دون أن أروي لك الفترة التي لم تعشها معي منشغلا بما كان يخص طفولتك من لعب وأشياء أخرى تعلمها وحدك..
في التاسعة من عمري..
ذات صباح بارد جدا أيام كان الجليد يغطي الأرض وتذيبه الشمس بعد طلوعها قمت باكرا كعادتي لأقصد المدرسة و أنا أشعر بالرعشة في كامل جسدي الصغير.. اعتقدت أنها بسبب البرد كنت حاملا محفظتي وكنت في منتصف الطريق المؤدي إلى المدرسة شعرت بالدوار في رأسي والوهن في كامل جسدي و أني سأموت لو أواصل مسيري فعدت بما تبقى مني إلى البيت رميت محفظتي و جلست على كرسي خشبي صغير قرب الموقد الصق جسدي المرتعش إلى النار استدفئه .. مرت فترة ولم ينتبه أحد لوجودي.. ولم يكن في غرفة الموقد الذي ينفت الدخان عبر مدخنة على السقف.. سواي..
دخلت خالتك ورأتني وبصوت صارخ.. لماذا لم تذهب إلى المدرسة يا ابن الكلب؟ لم أستطع أن أجيبها إنني مريض جدا وإني أشعر بالبرد يحطمني من عظامي .. لأنها لن تصدقني على أية حال و ستضربني بحذائها وهذا ماكان على ظهري ورأسي و رفعتني لكن قدميّ لم أستطع الارتكاز عليهما ودفعتني فسقطتُ على وجهي لكن جدتك دخلت وسألتها.. مابه لماذا لم يذهب إلى المدرسة؟ ثم لاحظتني لا استطيع الحركة فقط أبكي رفعت جدتك وجهي لتنظر مابي مابك يا إبن الكلب؟ قلت لها بما تبقى من أنفاسي أنا مريض يا أمي مريض جدا و سأموت.. ردت جدتك.. يا خلاء داري الطفل في حالة...
وحملتني إلى الفراش وهي تقول إنه خفيف كطائر أبو الحناء .. فقلت لها.. البرد، بردانٌ جداً يا أمي.. فقربتني من الموقد النافت للدخان من خلال سقف تلك الغرفة... ولم أعد أشعر أن لي قدمين أو أني استطعت الوقوف أو المشي يوما
هل تريد يا صالح أن أكمل الزمن الذي كنت أنت حاضرا فيه بجسدك ولم تكن حاضرا فيه بوعيك ...؟
ستأتي الآن السحابة التي لم ترها أبدا في حياتك ولم تسمع بها حتى
وتحملك معي عبر الطريق التي سلكناها معا عدة مرات بخطواتنا الصغيرة وتعرفها أنت خطوة خطوة حجرا حجرا و شجرة شجرة وبركة بركة.. إلى كوخ الطفولة الحبيب والذي سلكه كله عمري الصغير بلا قدمين.. وبالدموع على طول ذلك الطريق..
يتبع..
...../......
بقلم: رابح بوصبيعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق