- لماذا اخترت الوحدة ؟
ساعاتي الأكثر وحدة هي التي أظهر فيها قوتي النفسية. و هي الاختبار القاسي الذي أتعرض له مبتعدة عن أصدقائي و خلاني ، و مبتعدة عن عادات كثيرة اعتدتها في وجودهم معي ..فوحدتي تتحول بحياتي إلى حياة أخرى بعادات جديدة و بأوقات فارغة أكثر ، و بتفكير في ملء هذه الأوقات و استئصال هذه العادات .
و هنا تكمن القوة النفسية ، في أن أتحمل عاداتي الجديدة و حياة جديدة غاضًّة طرف نفسي عن سابقتها. و معروف أن أشد ما يكون على النفس أن تضعها فيما لم تعتده ، و القوي ذو الإرادة من يستطيع أن يتكيف مع هذا الطقس الشديد .
و الوحدة تنأى بنا عن تبادل المشاعر مع غيرنا و التمازج الرائع بين النفوس ..فهي تضعنا في ركن سحيق من الدنيا حيث نحن فقط من نُوجد فيه . من هنا تتحول أنت كمصدر مُستَقبِل للشعور و الأحاسيس إلى مصدر مُوَجِّه لها ، فليس هناك إنسان يمدُّك بالشعور و الانسجام الذي اعتدته و بقي إلا أن يكون هذا الإنسان هو أنت .. فتجعل من نفسك كل شيء و تحاول أن تسترجع ما فقدته من غياب الآخرين عنك . و في هذا اختبار قاسٍ و مرير فهو يضاهي أن تواجه طقسًا درجته تحت الصفر عاريًا أو تجلس في وسط النار . فالأمر لا يقل ضراوة أو شدة .
الوحدة تضعني في فراغ عمن حولي ، فالوقت القليل الذي كان يتبقى لي بعد لقائي بأصدقائي سيكثر و يتمدد و يشمل وحدتي المريرة. و أكون كعربة اعتادت أن تتحمل كيلوجرامات و فجأة وُضِعَ فوقها أطنانًا . فأبدأ بالتكيف و أُعَدِّل من نشاطاتي و اهتماماتي و أسعى إلى شيء ما ، أبلور حياتي حوله و أجعله غايتي الكبرى، ليندمل جرح وحدتي و نأيي عن الناس .
إذ في ساعات الوحدة أشباح و هواجس الماضي و بقايا حرائقي الداخلية و صندوق شهواتي المستتر الذي قد يَخَفى شهورًا و شهورًا و أنا معهم .. كل ذلك يعود و تلوح أمامي تلك الأشباح و الذكريات و هذا الصندوق يفتتح ليحرك في ما قد خَبَّأته كثيرًا ..و كأني في صراع مع كل شىء و أنا وحيدة ، مع نفسي و ذكرياتي و شهواتي و سطو العادة..
لقد وضعتني الوحدة في حرب وجودية ، حرب تدور داخل ذاتي و "إنيتي" ، لا يُسْمَع فيها صليل السيوف و وقعها ، ولا رماح الوغى الصاخبة وعَدْو الخيول المغبَّر .. بل ملحمة عظيمة في غرفة هادئة ، و كل الناس يقولون ما لها صامتة ، ما لها هادئة ! و في الحقيقة أنا أعيش حربا لا تقل بأسًا عن الحرب الحقيقة ..
{ أعلمت إذا لِمَ الوحدة تُظْهر قوة النفس و شدته و تخلق من الإنسان إنسانًا آخر ! بعض الناس لا يَقْدِر على أن يخلو بنفسه و لو لدقائق بل يخاف أن يخلو بنفسه . فهو لا يعلم ما قد يحدث و لا يتوقع نتيجة مباراته مع نفسه ، و لا يأمنها أن تفاجئه بتقريع و سخط و نقد لاذع على ما قد جنى من غلط ..
و أن تتواجد مع الناس دائما ليس شرطًا للقوة النفسية بل هو يحمل في طياته خوف من الوحدة ..خوف من اللقاء المرتقب مع نفسك ، أن تكون أنت على مقربة منها ، و تراها كما لم ترها من قبل .
أتحب أن تكون قويَّا ؟ فلا تتواجد معهم مجددًا إلا بعدما تتواجد مع نفسك - فقط - بقدر كافٍ تعرفها فيه .و ليس الاختباء دائمًا بدليل على الضعف ، فمن يختبء في نفسه قد يخرج أقوى ممن يصول ويجول بين الناس ، و من يتواجد في الواقع فربما يكون مختبئًا من وحدته و من نفسه ، من هنا يتجلى الهرب الحقيقي ، ينكشف الضعيف من القوي . }
بقلم فريدة بن عون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق