بقلم :ماهر اللطيف
كنت أعود قريبا لي يقيم في المستشفى من حين لآخر للاطمئنان عليه و على حالته، و هو مصاب بسرطان في المعدة و يخضع للتداوي بالكيماوي.فكان دائم التألم و التوجع جراء المرض و الدواء على حد السواء، لا يقدر على الحراك و قضاء شؤونه الخاصة بسهولة بما في ذلك الأكل و الشرب و تغيير ملابسه و حتى تناول بقية أنواع أدويته في مواعيدها و حسب توصيات الأطباء...
لذلك كنت أتقاسم أوقات العناية و الاهتمام به مع أخي و ابنه الوحيد الذي لم يغلق بعد العشرين من عمره وقد اضطر إلى الانقطاع عن الدراسة الجامعية مؤقتا ليعتني بوالده مثلما فعل مع أمه منذ أشهر ولّت قبل أن ترحل إلى العالم البرزخي وقد نال منها المرض الخبيث الذي نخر جسدها و نال منه باكمله....
و كان يقيم مع قريبي في غرفة المستشفى ثلاثة نزلاء آخرين أصابهم السرطان أيضا في مناطق مختلفة من أجسادهم النحيفة، تعرفت إليهم تباعا و بت قريبا منهم و مساعدا دائما لهم و لحاجياتهم بصدر رحب وانا أرجو لهم الشفاء وادعو لهم في كل مرة وصلاة.
و من بينهم الحاج مسلم الذي أصابه السرطان في رئتيه جراء كثرة التدخين و نال منه كثيرا إلى أن أمسى دائم البكاء و الصياح و إخفاء وجهه تحت الغطاء لتجنب عطف الناس و مؤازرتهم و تعاطفهم معه، مما جعلني أسأل عنه قريبي الذي أخبرني ذات مرة بصوته المتقطع الحزين - تحت تأثير المرض و الأوجاع- :
- لم يعد يقدر على الآلام و الأوجاع والكيماوي، فقد ذبل جسده و تراجع كثيرا حتى أضحى شبيها بالهيكل العظمي وتوأمه حسبما أرى
- (محاولا إخفاء بسمة فجائية جراء كلامه) شفاه الله و عافاه مثلكم و أرجعكم إلى بيوتكم سالمين في أقرب وقت إن شاء الله
- (بعد تنهيد عميق وطويل) آمين يا رب العالمين
لكن وضعية الحاج مسلم كانت تتعقد من يوم لآخر مما جعلني اقترب منه أكثر فأكثر باستمرار إلى أن قلت له ذات يوم و كانت دموعه تبلل ملابسه كالعادة و هو يحاول إخفاء وجهه تحت الغطاء ويكتم صوته قدر الإمكان :
- لا بأس عليك يا حاج، ستفرج بإذن الله
- (مقاطعا بشدة بعد أن رقمني بنظرة ثاقبة و حادة حين أبعد وجهه عن الغطاء) ستفرج؟ (معارضا برأسه) مستحيل يا بني
- (ماسكا يده بلين و ضاحكا في وجهه) لا تستسلم و لا تقنط من رحمة الله، أعلم ما تحس به من أوجاع و الام إضافة إلى نوعية الدواء التي تزيد من تأجيج الوضعية و تأزيمها
- (مقاطعا بعد أن استجمع قواه)هل تعتقد أني أتألم من المرض؟ أنت واهم ، فالمرض ابتلاء وبلاء علينا تحمله وحمد الله وشكره على هذه النعمة رغم قسوتها وقتامتها، هي حالة لا نملك غير التعامل معها إلى النهاية
- (مستغربا وحائرا) إذن، ما يبكيك ويؤلمك حاج مسلم ؟
- (بصوت منخفض حتى لا يسمعنا بقية الحضور بعد تفكير) أرجو أن يسامحونني ويتغاضوا الطرف عما مسهم مني من أضرار ومساوئ بني
- (مستغربا وهامسا في أذنه) من هم؟
- (بعد أن تفقد وضعية جيرانه واطمأن من عدم وجود رقيب و لا جاسوس لما يدور بيننا) الأمر معقد للغاية بني، و مع ذلك سأوجز قدر المستطاع، فأنا كبير إخوتي و لي أخت تصغرني بسنة و أخ يصغرني بثلاث سنوات، ننحدر من عائلة ثرية للغاية، توفي ابي و نحن في أوج شبابنا جراء المرض مما أثر على والدتي و جعلها تمرض أيضا إلى أن أصيبت بالزهايمر و فقدت كل علاقة بالحياة والناس ، فانتهزت الفرصة و جعلتها تمضي لي على ورقة تنازلت فيها عن كل الأملاك و العقارات و الأموال وما نكسب بما انها كانت وكيلة عامة على ذلك قبل أن يتوفى والدي الذي أعطاها هذا التفويض كتابيا وقانونيا و امرنا بطاعتها ما دامت على قيد الحياة، وقد أرّخت الورقة بتاريخ قديم يعود إلى ما قبل مرضها و قدمت كثيرا من المال لشخصين بالغين حضرا موكب الإمضاء و شهدا عليه كتابيا بعد أن استظهرا بهويتهما ودوّنا تفاصيلهما على الوثيقة. ثم سجلت الورقة لاحقا لدى الهياكل الحكومية المختصة قبل أن أتقدم بقضية عدلية ضد أختي و أخي لأخرجهما من المنزلين و أفتك منهما السيارات وكل الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها.
- (مندهشا و محتقرا مخاطبي في الحقيقة داخليا ) استغفر الله العظيم و اتوب إليه
- (مقاطعا بشدة وصائحا) انصت لي و انت صامت . و رغم محاولات إخوتي و تقديم القضايا و تدخل الوساطات وغيرها فقد ربحت القضية و أخرجتهما عنوة من أرزاقي و طردتهما و عائلاتهما شر طرد مستنجدا في ذلك بالقوة العامة، ولم أعبأ بهما و بقولهما المستمر علانية و بصوت مرتفع "حسبي الله و نعم فيك يا مسلم، اكنز ما شئت اليوم و افعل ما تقدر عليه، لن نعترض سبيلك مجددا، فقد رفعنا ملفك إلى الله سندنا الوحيد بعد أن اعتمدت أنت على البشر و اشتريتهم بمالك وعطاياك واجبرتهم على اعانتك في اهانتنا وحرماننا من حقوقنا الشرعية ، حسبي الله و نعم فيك يا ظالم" (يبكي بحرقة). ومضت الأيام و السنوات، وكبرت ثروتي و ازدهرت تجارتي و نمت و تكاثرت عقاراتي و شركاتي و نجح أبنائي و كبروا أمامي، ولم أعلم ما الذي حصل إلى أخواي و عائلاتهما منذ ذاك اليوم. (يصمت ليجفف بلل عينيه و يستجمع قواه و َيتنفس نفسا عميقا) لكن، و كما يقول المثل" من حفر جبا لأخيه وقع فيه" فقد استغل أبنائي مرضي و وهني و عدم مقدرتي على أداء مهامي ليرفعوا ضدي قضية عدلية و يصادروا أملاكي وكل ثروتي استنادا إلى تقرير طبي معتمد من طرف الطب الشرعي يثبت عدم مقدرتي على إدارة شؤوني و بالتالي إمكانية التفريط فيها وهدرها في كل آن . المهم ، فعلوا كل شيء و اتحدوا ضدي بعد وفاة أمهم و طردوني من المنزل بكل وحشية وقسوة. وحين أتى بي بعض الجيران إلى هنا هاتفت أبنائي و رجوتهم أن يعتنوا بي، لكنهم رفضوا و تنكروا لي بدعوى أن لا وقت لهم لذلك.
- (وقد صمت لصعوبة تنفسه) ألم تتصل باخوتك؟
- (بعد فترة من التفكير) أخبرتك أني فقدت كل صلة بهما، و رغم ذلك فقد عثرت على حساب فيسبوك ابن أخي الأكبر بعد جهد جهيد، فبعثت إليه رسالة للاطمئنان عليه و على عائلته، فاخبرني أن والده مات قهرا وحسرة بعد سنوات قليلة من طردي له و هو يدعوني إلى الله في كل لحظة. كما أخبرني انه و إخوته لن يسامحونني هنا و لا يوم القيامة و لن يغفروا لي ما تسببت لهم فيه من جوع و فاقة و أمراض و أهات انتهاء بفقدان والدهم. ثم لا أعلم ما الذي فعله من يومها، فلم أعد أجد حسابه البتة في اي موقع من مواقع التواصل الإجتماعي . أما أختي فلا أعلم عنها شيئا إلى اليوم للأسف رغم محاولات البحث عنها.
- (متسائلا بحذر شديد ) أنت نادم إذن؟
- (مطأطئا رأسه) بكل تأكيد بني، لكن لا ينفع العقار فيما أفسده الدهر، ها أني ادفع فاتورة ما قمت به، أجني ثمار ما زرعت، أتألم باستمرار و صوت أخي يرن في أذني في كل لحظة و هو يقول "اكنز ما شئت اليوم و افعل ما تقدر عليه... فقد رفعنا ملفك إلى الله...". وقد رأيت نفسي في المنام أكثر من مرة وانا أتعذب و أتقلب في النار و أخواي ينعمان في الجنة ويقولان "ألم نقل لك أننا سنلتقي يوما أمام العادل ونقتص منك" ...
ثم انهار بالبكاء و امرني بالانصراف و تركه وحيدا، فغادرت المكان حينها دامع العينين و متقطع الأوصال و الأجزاء بعد الذي سمعته إلى أن مرضت و لزمت الفراش عدة أيام و حواري مع الحاج مسلم ( الذي حج البيت و اعتمر عدة مرات أيام جبروته وبطشه) لم يهجر أذني و كامل جسدي الذي كان يرتجف و يرتعد كلما استرجعت هذه الاحداث وتفاصيلها المقززة .
و بعد أن شفيت تماما اتجهت صوب المستشفى كالعادة بلهفة وشوق كبيرين لرؤية أحبابي والاطمئنان عليهم وعلى صحتهم ، فلم أجد الحاج مسلم، و اخبرني قريبي انه توفي منذ ثلاثة أيام ولم يحضر لاستلامه احد من عائلته الشيء الذي جعل إدارة المستشفى تدفنه بعد أن يئست من لامبالاة واكتراث أفراد عائلته به و رفضهم استلامه و قبوله ميتا وقد رفضوه حيا من قبل ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق