العقلُ ليس عبدًا
بقلم: فؤاد زاديكى
إنّ الكونَ المحيطَ بنا تكتنفهُ هالةٌ سرمديّةٌ من الأحجيةِ و الألغازِ و الأسرارِ، مِمّا يجعلنا في حالةِ ضعفٍ و حيرةٍ. و كلّما حاولنا التّوغُّلَ أكثرَ في محاولات كشفِ هذه الأسرار للوقوف على خصائصها، فإنّنا نجدنا نغرق أكثر فأكثر في متاهةٍ تفرضُها علينا مفاهيم ميتافيزيقيّة (ماورائيّة) سائدة و تفسيرات مسبقة. فكيف بإمكاننا التّعاملُ مع هذه القوّةِ الخفيّةِ التي تتحكّم بمصائر البشر و بدوران هذا الكون و صيرورته كما استمراريّته؟ هل نستسلمُ ليخضع عقلُنا لِما يُقالُ؟ هل نقاومُ بمحاولات بذل المزيد من البحث و الدّراسة و الاستقصاء و التقصُي؟ هل علينا عدمُ فعلِ هذا و ذاك؟
في جميع الحالاتِ و الاحوالِ و مهما حاولنا فإنّ ما يُمكنُ الوصولُ إليه لن يتعدّى حدودَ كونِهِ يبقى ضمنَ إطارٍ محدّدٍ يخضع لقوانين و مفاهيم و قواعد و ضوابط و أنظمة ماتزال سائدةً لغاية اليوم، كلّ هذا سوف يبقى ضمن إطار عدم تجاوزِ حدود المعرفةِ البشريّةِ. على الأقلّ تلك التي توصّل إليها من سبقنا في بحثه عن هذه المعرفة.
قد تكونُ طاقةُ العقلِ الفكريّةُ و الذّهنيّةُ و المعرفيُةُ خارقةً. إلّا أنّها ستظلّ دونَ مستوى إدراكِ كنهِ كلّ هذا الكمِّ الهائلِ من الأسرارِ و الأحجيةِ و الألغازِ القابعةِ في قمقمِ عدمِ معرفتنا. منذ أن عرفتِ البشريّةُ الحياةَ تولّدت لدى الإنسان دوافعُ المعرفة و ميولُ البحثِ عن المنشأ و السّبب و المؤثّر عن كلّ ما هو غيرُ مَرئيٍّ. لكنّهُ يكونُ على الأغلبِ محسوسًا. يتمُّ إدراكُهُ بالعقلِ الباطِنِ و هذا ما يسهم أكثر في عمليّةِ تعذّرِ الفهمٍ و يُعيقُ حالةَ الاستيعابِ الواجبةِ، فهو يتخبّط أكثر في أمر حياته التي لا يرى منها و لها مخرجًا. فإمّا أن يلجأ إلى مصدرٍ يرى فيه معينًا ليستند إليه و يتوكأ عليه، يكون فيه بعضُ شعورِ الارتياحِ من غمّةِ هذه المعاناة، و إمّا أن يمنح لفكرِه و عقله بُعدًا أوسع في حرّيةِ الرّفضِ التّامِّ و عدمِ القبولِ بكلّ ما هو مفروضٌ و مُقَرٌّ مُسبقًا من تفسبراتٍ و تعليلاتٍ و مبرّرات تكون نتائجُها هي السائدةُ و المعمولُ بها. منها ما يكونُ قريبًا من المنطقِ و منها آخرُ لا يمتّ بأيّةِ صلةٍ لمنطق العقل و القبول إذ هو يتناقض مع الفهم و العقلانيّة.
أعتقدُ أنّنا سنبقى في دوّامةِ هذا النّوعِ من التّفكيرِ بتعقيداتِهِ التي لا تنتهي إلى أن تصلَ بنا الأمورُ إلى نتائجَ لا تقبلُ أيّةَ احتماليّةٍ لأنْ تتعارضَ أو تتناقضَ مع العقلِ. عند ذلك نكونُ مُلزمين على الإقرار و الاعتراق بحقيقةٍ واضحةٍ لا تحتملُ أيّةَ إشكاليّات فكريةّ أو عقليّة.
إنّ العقلَ باعثُ الإنسانِ على البحثِ و دافعُهُ الذي يحثُّهُ على الدّوامِ بعدمِ الخضوعِ لأجندةٍ مهزومةٍ أمام روح المنطق و بهاء العقل. و ما عمليّةُ البحثِ هذه سوى الطريقُ الامثلُ و الاسلمُ و الأدقُّ للوقوفِ على الحقيقةِ النّاصعةِ، التى لا غبارَ عليها أو ضبابيّةً تشوّشُ معيارَ المعرفةِ لدى الإنسان.
بالرّغمِ من كلِّ ما أنجزنا من خوارقِ العلمِ و العلومِ و معجزاتِ التقدّمِ التكنولوجيّ و المعرفيّ من كلّ أصناف العلوم و المعارف في جميعِ مجالاتِ الحياةِ. فإنّ الإنسانَ مُقِرٌّ بضعفِهِ و هو واضحُ التّعبيرِ عن هذا الضعفِ و لتلافي جميع هذه العوائق على العقل البشريّ أن يستمرّ بجدٍّ و دأبٍ و اجتهادٍ و مثابرةٍ في البحثِ بمزيدٍ من البحثِ في مجالاتِ العلم و العلوم و المخترعات الخ...
الواقعُ المُعاشُ يفرضُ علينا ألّا نتوغّلَ بعمقٍ في طرحِ ما يثيرُنا من أسئلة و تساؤلاتٍ، فهو يرى فيها خروجًا عن المعروف و المألوف و السائد و الذي هو بمثابةِ البائد. لكنّ إبقاءَ العقلِ ضمنَ دائرةِ الاتّهامِ و الشّكِّ فهو ما يعزّزُ من حظوظِ هذا الفكرِ السّائدِ ليبقى مُتحكِّمًا إلى ما شاءَ اللهُ. من المهمّ معرفةُ أنّ مُهمّةَ العقلِ لا تقِفُ عند حدودٍ و لا يجبُ ربطُها بأغلالِ موروثٍ عفا عليه الزّمن. فسلطانُ الخوفِ من الأحكامِ التي سوف يُطلقُها المعارضونَ لهذا التّوجُّهِ كسهامٍ بهدفِ التّرهيبِ و غايةِ التّهديدِ و مسعى التّخويفِ و بُغيةَ التّهويلِ انتهاءً بالتّكفيرِ لكي يبقى العقلُ عبدًا مأمورًا لديهم، يستطيعون السّيطرةَ عليهِ كيفما شاؤوا و والتّحكّمَ بهِ لتوجيهِهِ متى و أنَّى رغبوا بذلك. لا و ألف لا فالعقلُ ليس عبدًا بل به حرّيّةُ الإنسان وتحرّرُه من هذا الوهم المسمّى بالسّائد كموروثٍ عفِنٍ لا حياةَ، كما لا قيمةَ إنسانيُةٍ له
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق